14-سبتمبر-2021

جيش كبير دخل جميعه سوق الانتخابات تحت مفهوم "السياسي المستقل" (تعبيرية/فيسبوك)

تقول الإحصائيات الرسمية إن 789 مرشحًا سيخوضون سباق الانتخابات كمستقلين في الانتخابات البرلمانية العراقية المقرر إجراؤها في 10 تشرين الأول/أكتوبر من هذا العام، وأودّ أن أوضح أنني سأحاول تتبع المعنى السياسي لما بات يعرف بـ"المرشح السياسي المستقل"، سواءً أكان مرشحًا مستقلًا بشكل فردي، أو المرشح غير العقائدي، وإن كان ضمن أحزاب وتيّارات عقائدية معروفة، أو حتى من المرشحين ضمن تيارات مستقلة.

نحن الآن أمام جيش كبير دخل جميعه سوق الانتخابات تحت مفهوم "السياسي المستقل"

وبشكل أداتي سأقوم بتقسيم هؤلاء الذين يقولون إنهم "مستقلون"، إلى "فئتين طبقيتين"، الأولى؛ هم المنتمون للطبقة الوسطى، أما الثانية؛ فهم المنتمون لطبقة رؤوس الأموال والمشايخ،  وربما نجد تعسفًا في هذا التقسيم، إلا أن الفهم الأداتي للطبقات في العراق كما تتبعه وخطه المؤرخ الاجتماعي حنا بطاطو يساعدنا على إدراك هذه التقسيمات، فالطبقات تكوينات اقتصادية بجوهرها  تتبع الزمان والمكان الخاص بها، أي أن لها سياقها التاريخي الذي يُعاد تعريفها باستمرار وفقًا له، فسياقنا التاريخي له وضعه الطبقي الخاص به، والذي ربما يفلت من تحديدات كارل ماركس وماكس فيبر الدقيقة، حسب بطاطو أيضًا.

                                                       قناتنا على تلغرام.. تغطيات مُحايدة بأقلام حرّة

تشكّل سياق هذا "الاستقلال" ضمن تأثير الخطاب الشعبوي الناقم على التجربة الحزبية الفاشلة في عراق ما بعد 2003، وهذا الأداء يُسبغ على المرشحين المستقلين من هذه الفئات الطبقية والثقافية التي أشرنا لها بشكل عام، ولكن هل يعبّر هذا الاستقلال عن قيم مشتركة لهذه الجموع التي يدعي هؤلاء المستقلون تمثيل استقلالها؟ وهذا هو سؤال المقال الجوهري؛ ما هو المعنى الذي يحاول صنعه هذا المستقل بين الجمهور أو بينهم كسياسيين؟

مستقلو "الطبقة الوسطى"

نحن الآن أمام جيش كبير من المهنيين، أساتذة جامعات ومعلمين ومهندسين وأطباء ومحامين وغيرهم، دخلوا جميعهم سوق الانتخابات كسياسيين مستقلين، وهذه هي الفئات التي شكّلت ما يعرف بـ"الطبقة الوسطى"، ضمن تاريخ الدولة العراقية حسب تخطيطات بطاطو، وهذه تحتاج إلى تفصيل أكبر غايته الفهم، ما دمنا نبحث عن معنى لهذه الفئة. تفجرت هذه الفئات كطبقة واضحة رافقت التغيرات الثورية التي حصلت بعد الانهيار المحتوم للنظام الملكي في العراق، إذ أننا أمام طبقة لم تنتجها اليد الصناعية المستقلة عن الدولة، كما في السياق الغربي حتى يكون لها معنى ما ضمن الصراع الاجتماعي، بقدر ما أن الدولة وبغاية تركيز أكبر للسلطة بيدها وتضخمها، كان لا بدّ لها أن تسيطر على وسائل الإنتاج الذي يتيح لها فرصة التدخل في كل القطاعات الإنتاجية، وهذا يضمن لها فرض الهيمنة الأيديولوجية بسهولة تامة، وهذا جل ما تحتاجه أنظمة قلقة تفتقد المشروعية الحديثة للحكم، وخصوصًا بعد دخول النفط وريعه بشكل ثوري على مقدرات الاقتصاد الرئيسية للبلد، استأنف نظام ما بعد 2003 هذه الاستراتيجية وأضاف جيوش من الموظفين والرواتب والامتيازات من أموال ريع النفط بغرض الهيمنة أيضًا، وبهذا صنعت الدولة العراقية الحديثة على طول تاريخها استقلالًا ماليًا من جهة، وسيطرة على وسائل الإنتاج تضمن لها الهيمنة من جهة أخرى، جعلت هذه السيطرة التامة من العلاقة بين الإفراد أو الجماعات، والملكية منعدمة وفقًا لحنا بطاطو، وبالتالي أخذ الصراع الاجتماعي سياقًا آخر كان مشوهًا بدرجة كبيرة، وهو صراع ليس من أجل الملكية كأدبيات للطبقة الوسطى، قدر ما أصبح صراعًا لأخذ المناصب الكبيرة ضمن جهاز الدولة، فالاستقلال الذي يقصده المستقل من هذه الطبقة هو فردانية ضمن هذا الصراع من أجل السلطة ومغانمها لا غير، ولا قيمة تمثيلية لقطاعات اجتماعية غير متحزبة ضمن أطر وبرامج واضحة؛ فهل من معنى لثيمة الاستقلال هنا؟ 

 رؤوس أموال ومشايخ مستقلين

ومن المفترض أن تكون هذه الفئة أكثر وضوحًا في غاياتها، ومعانيها السياسية  من نظيرتها السالفة، ولكن ما أفكر به، هي المعاني والمنابع لنزوعهم الاستقلالي في السياسة، أفكر في تعبيرات ماكس فيبر للطبقة بوصفها نزوعًا إلى الوجاهة في آخره، فهل من معاني وقيم تعزّز وجاهتهم وحضورهم الطبقي بـ"المعنى الفيبري" هي ما تشكّل الجامع الأيديولوجي لهم، أم أن منزعهم السلطوي جاء متفقًا مع آليات نظرائهم من فئة الطبقات الوسطى؟ يشير حنا بطاطو في كتابه الأهم "العراق" بأن عراق ما بعد عام 1958 هو عراق الطبقة الوسطى، ولكن هذه تحتاج إلى تفصيل، فالطبقة الوسطى المشار إليها مشوهة وفاقدة لأي معنى تضامني بينها، كونها أساسًا نتاج لتمركز السلطة وتوسعها، فلم تعد حسب هذا الشرط الموضوعي عملية الإنتاج الاجتماعي خاضعة لمعادلة "رؤوس أموال تتصارع على فائض القيمة وإعادة الإنتاج الاجتماعي ضمن سلطة حيوية".

اقرأ/ي أيضًا: الدولة والجماعة في العراق: من يتحكم بنا؟

إن تخلخل الكثير من السلطة العشائرية واختلاف نشاطها وحركيتها، لم يبقِ لهم من طريق إلى العمل السياسي غير طريق الصعود بآليات الطبقة الوسطى نفسها إلى السلطة، أي التفكير بالسلطة هنا كانتقال إلى سلطة، إلى أعلى ضمن تراتب وظيفي وليس سياسيًا، فأننا لا نجد أي معنى سياسي في خطابهم يعبر عنهم وعن قيمهم، سواء كانت قيمًا اقتصادية عملية في حالة رؤوس الأموال أو قيمًا اجتماعية محافظة فيما يخص المشايخ، وهذا التفكير بالسلطة، نابع من الأسس الموضوعية التي أشرنا لها، بقصد أنهم لا يفكرون بالسلطة من جانب طبقي ـ ثقافي ضمن صراع اجتماعي، بل تفكير غير سياسي بأي شكل من الأشكال، البحث هنا يكون عن صعود بيروقراطي ضمن التراتبية البيروقراطية للدولة، كأي موظف عادي يطمح أن يكون نائبًا في البرلمان دون محتوى سياسي؛ أليس هذا نفسه ما يدفع ما يسمى بـ"المستقلين المهنيين" بأن يكونوا نوابًا في دولة الموظفين هذه؟! 

لم يكن إنتاج المعنى السياسي إلا حصيلة للصراع الاجتماعي داخل حيز المجتمع، وبما أن الدولة سيطرت على هذا المجال، وأخذت  تعيد إنتاجه من جانب واحد ما صنع تضخمًا وتمركزًا للسلطة على حساب المجتمع المدني الحيوي سياسيًا، فإن هذه الفئات التي أشرنا إليها تبقى خالية من أي قيمة سياسية تسعى لتحقيقها، وبالتالي فأن وجودها  كان وما زال طفيليًا وليس له أي معنى ضمن الصراع السياسي في عراق ما بعد 2003.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

النظام العراقي: المزيد من النفخ في القربة المخرومة

معاركنا التي لم تُحسَم بعد