16-فبراير-2021

جريمة ملجأ العامرية دلالة على رخص دماء العراقيين (فيسبوك)

كثيرة هي القصص التي سمعناها من أشخاص عايشوا تلك الجريمة، وحكايات تناهت إلى مسامعنا عن أصوات أرواح تجوب المكان بصور شتى، فهناك من سمع أصوات أطفال وضحكاتهم وهم يلعبون، وآخر يؤكد أن همسات نسوة وهنّ يتبادلنّ أحاديث المساء قبل النوم، وأحاديث أخرى عن أرواح كانت تُلقي التحية على من يمرّ بجانب ملجأ العامرية، ذلك المكان الذي حطّ فيه ملك الموت ليأخذ معه القوافل من أرواح المئات من العراقيين.

برر الأمريكان جريمة ملجأ العامرية بتبريرٍ أقبح من الذنب عن معلومات استخبارية وصلتْ إليهم لزيارة قام بها الرئيس صدام حسين وولده قصي إلى الملجأ

في همسات ذلك الليل الهادئ والبارد المظلم، حيث اعتاد أهالي المنطقة على قضاء لياليهم الطويلة في ذلك المكان المُحصن، أو هكذا كان يُظن للاحتماء به من الغارات الجوية، كان هذا المكان ملاذًا آمنًا للكثير من العوائل التي كانت تذهبُ إليه بعد العصر لتوفر مقومات الحياة في هذا الملجأ من مولدات كهرباء وماء وتجمع آمن، حيث كانت بيوتهم تخلو من كل تلك الأساسيات التي قصفها الأعداء.

اقرأ/ي أيضًا: مات بوش الأب.. بقي العراق!

كان الملجأ عبارة عن كانتونات أفقية وعامودية مقسمة بأقسام للرجال وأخرى للنساء، وهكذا كانت العوائل تقضي لياليها في هذا الملجأ لتعود إلى منازلها في الصباح الباكر من اليوم التالي. لم تكنْ ساعات ليلة (13-14) شباط/فبراير من عام 1991 اعتيادية بالنسبة لساكني ذلك الملجأ، حيث استهدفه الطيران الأمريكي بعد منتصف الليل بصاروخين، أحدث الصاروخ الأول ثقبًا في جدار الملجأ المُحصن، فيما انفجر الصاروخ الثاني داخل الملجأ مُحدثًا انصهارًا لكل شيء حتى تحولتْ تلك الأجساد الطرية إلى كُتلٍ سوداء مُتفحمة، التصق بعضها بجدران الملجأ من شدة الحرارة والانصهار.

وفي صباح اليوم التالي، كان الجميع يركض مجنونًا بلا وعي أو إدراك في شوارع المنطقة القريبة من المكان يبحثون عن عوائلهم التي تأخر قدومها إلى المنزل، فذلك الأب الذي كان يسأل عن زوجته وأطفاله، وذلك الذي تأخر عنه والديه وأخوته، وتلك التي كانت تبحث عن بناتها الغائبات عن حضنها تلك الليلة، أما في ذلك المكان المسمى ملجأ العامرية، فكان المشهد عظيمًا، لا يختلف عن يوم الحشر، فالكل كان يبكي، ينتحب، يصرخ، والبعض فقد ما تبقى من قواه، وكانت أيادي الجميع تبحث عن مكان في السياج الخارجي للملجأ لترى عسى أن يظهر أحد الناجين من بوابة الملجأ.

بعد سويعات حضرتْ إلى المكان سيارات الإطفاء على أمل أن تساعد في التخفيف من وهج الانصهار، لكن بخطأ غير مقصود، وربما بغباءٍ منه أمر المسؤول عن الإطفاء برش مداخل الملجأ بخراطيم المياه حيث تسبب هذا الفعل بإنهاء حياة بعض من كان فيه رمق من الحياة بسبب غرق المكان، وهكذا تحول الموقع إلى مقبرة جماعية. وفي عصر ذلك اليوم الكئيب كانت شوارع المنطقة وأحيائها عبارة عن مجالس عزاء في كل بيتٍ أبوابه مفتوحة، اختفى فيه المُعزين ولم يبق في سرادق العزاء، سوى ذلك الذي فقد زوجته وأطفاله وتلك التي فقدت بناتها، لكن ما كان يُحزن وحقيقة أبكى الجميع، هو ذلك الشاب الذي فقد والديه وإخوته جميعًا وجلس وحيدًا في البيت يسأل نفسه كيف سيعتاد الوحدة في هذا الزمن.

برر الأمريكان تلك الجريمة بتبريرٍ أقبح من الذنب عن معلومات استخبارية وصلتْ إليهم لزيارة قام بها الرئيس صدام حسين وولده قصي إلى الملجأ، وتفقده العوائل الموجودة هناك، لكن هل كان ذلك مبررًا لقتل كل هؤلاء الأبرياء وإزهاق أرواحهم. لم تبق من ذكريات ذلك الملجأ سوى حفرة أحدثها الصاروخ في السقف وآثار حديد التسليح وحيطان سوداء لونتها آثار جثث مُحترقة ومُتفحمة وشموع توقد وذكريات سوداء أثقلها تراب السنين.

جريمة ملجأ العامرية دلالة على رخص دماء العراقيين بالنسبة للمتباهين في الديمقراطية

عندما يتذكر البعض أحداث هذه الجريمة لا يفارقه اليقين بأن دم هذا الشعب رخيص جدًا ربما أرخص من شربة ماء. أكثر ما يستفز المرء هو ذلك الصمتْ الحكومي وعدم مطالبته بحقوق هؤلاء الضحايا من أعداء الأمس وأصدقاء اليوم، ربما هي العمالة أو الخوف، الخنوع أو ربما لأشياء أخرى نجهلها. لكن المؤكد أن جريمة ملجأ العامرية ستبقى وصمة عارٍ في جبين من يتباهى بالديمقراطية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حضارتنا الإنسانية والاستحواذ العرقي

تفوّق الضحايا وبراءة الجلادين