07-فبراير-2023
democracy in Iraq

ثمن الديمقراطية الباهظ لها ليس أكثر من ثمن الطغيان (فيسبوك)

حدثني ثقة عن شاب من أهل بغداد عاش في أواخر القرن الماضي أنه ترك لبس الحذاء القديم المعروف باسم "اليمني" واتخذ "القندرة" بدلًا منه اقتداءً بالأفندية، فثارت عليه من جراء ذلك ضجة من بين أقربائه وأهل محلته، وذهب أخوه إلى عمته يشكو إليها منه ويقول إنه سوّد وجه الأسرة أمام الناس وطلب منها أن تنصحه وتردعه، وقد حاولت العمة نصح ابن أخيها دون جدوى إذ هو بقي مصرًا على لبس "القندرة" ورفض "اليمني"!

علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج3

 

إذا أردت أن تقضي على مشروع أو مفهوم، فما عليك سوى القفز على النتائج، فحينئذٍ يغدو كل شيء حطامًا وأثرًا بعد عين. أنت لا تحتاج إلى كلفة مادية باهظة ولا إعلام مميز. عليك فقط أن تفتح باب التجارة الرائجة على مصراعيها، وأعني بها بالضبط: تجارة الوهم. مثلما يمكنك أن تجبر الناس، بطريقة غير مباشرة، على استهلاك سلعٍ لا يحتاجونها، فيمكنك بالوهم نفسه أن تروج لمفاهيم لم تولد بعد! أو لم تضع لها الشروط والمقدمات اللازمة لبنائها، فيظل الفكر محضًا بمعزل عن الوقائع. فعند هذا الحد ستضمن النتيجة المرجوّة: وهي الكفران المبين بهذا المفهوم وتفشي حالة الإحباط والعدمية في صفوف الناس. وأوضح مثال على ذلك هو "مشروع" الديمقراطية التي تكفّلت الأحزاب العراقية بوضعه نصب أعينها في "العراق الجديد".

يمكن الترويج لمفاهيم لم تولد بعد عبر تجارة الوهم

مثلًا، أن تُروِّج لحزب إسلامي، لا توجد أولوية بناء المؤسسات في أجندته الحزبية، بوصفه حزبًا ديمقراطيًا ويسعى للإعمار والبناء مثلما حدث مع "قائمة الشمعة"، وغيرها الكثير. أن تتصنع، كما لو أنك وريثًا لمؤسسات عريقة، وتتحذلق بثقافتك الدستورية، وتفرض على نفسك التزامات تتقيد بإطار الدستور، ثم ينتهي بك الأمر إلى تخادمات سياسية بغيضة هي أقرب للأحلاف القبلية القديمة منها إلى منطق التنظيم السياسي الحديث. لكنّك لا تستطيع المضي قدمًا بهذا المنطق الأجوف إلا من خلال آليات الديمقراطية. وفي نهاية المطاف تجلس على ركام هائل من الفساد والمحسوبيات والقمع والتنكيل.

ما النتيجة؟ صراخ وعويل، وتذمر وعدمية، وانطباعات مشوشة تجاه الديمقراطية، وتساؤلات عن جدواها في بلد يتربع على عرش اللصوصية والفساد. ومن ثم تتولد قناعة شبه راسخة للرجوع بخفي حنين إلى "محاسن" الاستبداد وأيامه الآمنة، يوم كانت السرقات شبه معدومة، والقانون ترافقه هراوة النظام الغليظة، والسلّة الغذائية، على علّاتها، تصل بانتظام إلى الأسر العراقية، والأمن الداخلي محكوم بقبضة حديدية، والحدود شبه مُؤَمَّنَة، ورئيس واحدٌ أحدٌ للبلاد والعباد يبطش بالخصوم، وأمضى لنفسه أن يبقى سيدًا أبديًا هو وزبانيته الغلاظ.

إذن، وضمن هذه المقارنة، وبهذا "المنطق" الشعبي، الذي تدعمه المقارنات التاريخية، يستنتج الناس أن الديمقراطية بدعة ومزحة بغيضة ورجس من عمل الشيطان. فمن باب أولى الرجوع إلى دفاعاتنا الاستبدادية القديمة.

يؤدي الفساد والقمع والتنكيل  إلى قناعة بمحاسن الاستبداد وأيامه الآمنة

من أجل هذا وغيره يحلم البعض بـ"الاستبداد المستنير"، أو "الاستبدادية الاستجابية" بتعبير حنّة آرنت، التي نعثر على نماذج منها في الصين ذات الحزب الواحد، التي أباحت لرئيسها الحالي (شي جي بينغ) التمتع بحق الخلود مدى الحياة في منصبه الرئاسي.

 أو يأتي مدعومًا بقلة من الأثرياء الفاسدين، مثل فلاديمير بوتين، فبعد رحلة رئاسية شاقّة يمكن لبوتين التمتع بإجازة طويلة عن رئاسة روسيا ليحل محله خلفه المقرّب دميتري ميدفيديف في الأعوام 2008-2012، ليتفرغ لإدارة دفة السفينة الروسية العملاقة من تحت الكواليس، ثم تنقضي العطلة المرسومة ويرجع مرة أخرى ليرشح نفسه رئيسًا للبلاد.

 لعبة مُحَبَبَة ومتفق عليها بين قوتين عظميين متصالحتين مع هذه التقاليد وتتمتع بتأييد شعبي إلى حد ما. وما يكفّر لها كل هذا هو عملها الدءوب لبناء الدولة، والتنمية المستدامة، وتحسين نوعية الحياة، وحفظ كرامة شعوبها. أيًا كانت نظرتنا، نحن الذين لا نمتلك أي نموذج، تجاه تلك النماذج السياسية فهنالك الكثير ممّن يحلم بها لكي ترى النور في نظامنا السياسي، بدلًا من مساوئ "الديمقراطية العراقية" سيئة الصيت.

ولأني شديد التحفظ على تلك الأحلام الفضفاضة، دائمًا ما أفصل، فرضيًا، بين مفهومي الاستبداد والطغيان؛ فالأول، رغم قمعه لخصومه السياسيين، حتى وإن كان بطريقة ناعمة، يدفع باتجاه التنمية والبناء، ورفع مستويات العيش لدرجة تنتفي معها معدلات الفقر بشكل عام، مثلما نرى الصين ومشاريعها الاستثمارية المهولة. وروسيا، رغم الفارق الكبير بالمقارنة مع الصين، تتربع على موقع سياسي وعسكري كدولة عظمى تشارك في صنع القرار العالمي.

نفصل بين مفهومي الاستبداد والطغيان؛ فالأول يدفع باتجاه التنمية والثاني يغرق البلاد بالديون

أما الثاني، وأعني به الطغيان، فلدينا، نحن العرب سوق رائجة لهذا المفهوم؛ فرئيس الحكومة، هو الدولة، والاقتصاد، ومراكز البحث، والماضي، والحاضر، والمستقبل، والدين، والدنيا. يستثمر ما تبقى من عمره المديد في إغراق البلاد في بحر من الديون تلقى بظلالها فيما بعد على الأجيال اللاحقة، ويعز عليه أن يرى سجونه المظلمة خالية من معارضيه السياسيين، وإذا ضاقت سجونه الرحيبة بالأبرياء، فالاغتيال، وتكميم الأفواه، ونظريات المؤامرة، كمفهوم خصب، دائمًا ما تراه حاضرًا في كل خطاباته المُنَمَّقَة. أما حزبه الذي ينتمي إليه فهو مجرد (سوبر ماركت) كبير ليس فيه سلعة إلا وتجد صورة السيد الرئيس ملصقة فيها؛ فالحزب هو الرئيس والرئيس هو الحزب؛ يعيش الرئيس ويموت الوطن. وما الحزب إلا جوقة موسيقية كبيرة تلهج باسم الرئيس ليل نهار حتى لو كان تافهًا وأحمقًا.

فما حصة العراقيين، مثلًا، لو أرادوا ترجمة حلمهم باستبداد "مستنير" أو "استجابي" بدلًا من هذا الطغيان الملعون؟ بصرف النظر عن صحة هذه القسمة (وهي بكل الأحوال محاولة لتعلم التفكير)، فكلا المفهومين سيسقطان سريعًا في فخ الطغيان! هذا ويجب ألا يغيب عن البال الخواص الفريدة للطغيان العراقي؛ ففيه كل ما تحلم به النفس البشرية المريضة من فنون السلخ، والسحل، وقطع الرقاب، وهتك الحرمات، حتى أن باقي الطغاة العرب يستجيرون بالله من هذه السادية التي لم يخبروها في ثقافتهم القمعية. ولذلك كان صدام حسين النموذج الفريد من هذه الناحية.

العراق بلد الطائفة (العشيرة والمذهب)، بلد الأشخاص لا المؤسسات، بلد النفور الغريزي من كل عمل مؤسسي، بلد الشخص الذي تتهدم أمامه كل أركان المؤسسة، بلد الحواشي، والارتجالات، وثقافة الموت. بلد الرئيس الذي يستثمر في الخراب والفساد صونًا لكرسي الرئاسة حتى لو تطلب الأمر الدخول في حرب مجنونة، أو نزاع طائفي، أو نقلاب عسكري.

المؤسسات، في ذهنية الطاغية رجس من عمل الشيطان وهي زائلة، أما الرئيس لا يزول على الإطلاق؛ يبقى شبحه يلاحقنا حتى في أحلامنا. لذلك أن الحلم بهذا الاستبداد المستنير المزعوم هو عملية ماكرة يغدو فيها الاستبداد والطغيان وجهين لعملة واحدة.

تبقى الديمقراطية قدر العراق والثمن الباهظ لها ليس أكثر من ثمن الطغيان

 لو كنت في الصين أو روسيا أو أي بلد يستلهم هذا النموذج ويطبقه على أرض الواقع سيتفهم ما تقول، لكن في بلد ينزف من إرثه الطائفي سينتهي به الأمر إلى الطغيان بكل تأكيد.

واعتمادًا على ما تقدم تبقى الديمقراطية هي قدر العراق رغم مرارة الحاضر وفجائعه التي لا تنتهي. أنه قدر ليس على سبيل الحتم، لكنه قدر يمشي جنبًا إلى جنب مع ذهنية الجيل الجديد الذي لا يرى نفسه معنيًا بكل إرث الطغيان، ويتطلع إلى ديمقراطية المستقبل. الثمن باهظ بكل تأكيد لكنه ليس أكثر من ثمن الطغيان المرعب. ثمن كلّفنا أن تحول البلد إلى آلة استنساخ ضخمة لكل أشكال الطغاة.