مع ارتفاع أصوات الحركات الحقوقية خلال القرن العشرين، انبثقت أصوات تطالب بالاعتراف بإمكانيات قصار القامة خارج إطار الصورة النمطية، واليوم في زمن التواصل الفائق، ما تزال التصورات السلبية تجثم على صدور قصار القامة، وتحصارهم داخل سجن ساهم فيه التاريخ واللغة.
عاش قصار القامة معاناة التصورات السلبية باختلاف الحضارات وما زال العبء اللغوي والتاريخي يحاصرهم داخل صورة نمطية متناسيًا عشرات الشخصيات التي كسرت قضبان هذا السجن وأحدثت نقلة في حياتهم ومجتمعاتهم
عومل قصار القامة بتفاوت باختلاف الحضارات، ولكن يمكن القول إن مكانتهم المرموقة في الحضارة المصرية القديمة، هي آخر عهد لهم بالتعامل المنصف، إذ كانوا يحظون بمكانة اجتماعية مميزة عملوا خلالها كقضاة وصائغي ذهب ومرافقين للملوك، وكانوا يدفنون في المقابر الفرعونية حول مقابر الملوك.
تغيرت النظرة لاحقًا لقصار القامة وصاروا مقيدين بمزيج من "الهيمنة والمودة"، كما المجموعات الأخرى بما في ذلك النساء والعبيد والزنوج والحمقى والمخصيين، "يعاملون كحيوانات أليفة"، على حد تعبير الكاتب الأميركي - الصيني يي فو توان، المختص بالجغرافيا البشرية.
ستنحدر كثيرًا التصورات تجاه قصار القامة خلال العصر اليوناني - عصر عبادة الجمال- مع "التفسيرات الطبية" البدائية لحالتهم، فبحسب هانا جريزيسياك، في بحثها "القزامة في العصور القديمة"، فقد كانت التصورات عنهم أنهم ذوو أجساد مشوهة "تثير الاشمئزاز والخوف" لدى المشاهدين، وتم تجنبهم إذ كان يُعتقد أن "الإعاقة" شكل من أشكال العقوبة، و"يمكن أن تكون معدية"، فمتى ما ولِدَ طفلٌ بعيب ظاهر، أمرٌ كثيرا ما يقودهم إلى "قتله".
وتشير إلى أن الأعمال الفنية لهذه الحقبة صورت قصار القامة على أنهم "عامل جذب وترفيه للمجتمع، لأنه في كثير من الأحيان في الحالات تم تصويرهم على أنهم يرقصون ويجعلون الآخرين يبتسمون".
وخلال عصر النهضة، يقول صاحب كتاب "الضحك"، بيري ساندرز، إنه "في بعض الأحيان يبدل الملوك المهرجين بالأقزام، الذين يؤدون الغرض ذاته وهو التسلية واللهو".
ولفت إلى أنه "لقرون طويلة ظل الناس يضحكون من أولئك الأقل حظا منهم، وضخم عصر النهضة ذلك التراث من الإعاقة. والشخص الذي لديه أحمق معاقًا أو قزمًا مشوهًا كان يرتقي ذاتيًا، ويوضع في مرتبة أعلى من الفقراء.. لقد سار الأقزام والحمقى في أثناء عصر النهضة بكونهم نسخًا معدلة بالمعنى الحقيقي للكلمة، من ذلك الذي كان الهدف الأول للضحك في الأدب: ألا وهو هيفاستوس (أقبح الآلهة منظرًا).
في الجانب الآخر من العالم، كان بلاط الخلفاء والأمراء العرب، لاسيما خلال العصر العباسي، حافلا بالمهرجين والحمقى والمجانين، ومن بينهم "الفُكيك" الذي كان "قصيرًا دميمًا"، ذاع صيته لمواقفه وطرفه.
والقَزَمُ في العربية يعني: "الدَّناءَةُ، والقَماءَةُ" (تاج العروس) أو اللؤم والشح والدناءة. وصغر الجسم في المال، صغر الأخلاق في الناس، اللئيم الدني الصغير الجثة (معجم متن اللغة) وقزَّم الشّيءَ أو الشَّخصَ: قلّل أهمِّيَّته أو حجمه، صغَّره وهوّن من شأنه. وهذا القاموس الذي يقلل كثيرا من شأن ذوي التقزم، تشترك فيه لغات كثيرة.
سجن الصورة النمطية
مع دخول التلفاز وصولا إلى السوشيال ميديا، ظل هذا العبء اللغوي والتاريخي يثقل كاهل ذوي القزامة، ويشكل تصورًا مسبقًا عنهم يحاصرهم داخل صورة نمطية، متناسيًا عشرات الشخصيات التي كسرت قضبان هذا السجن وأحدثت نقلة في حياتهم ومجتمعاتهم.
ومع وجود هذه الاستثناءات القليلة، فإن الأعم الأغلب منهم ظل رهين هذه التصور المرتبط بالثقافة الشعبية لدى الجماهير، أو ما يُطلَق عليه بـ"الترفيه المنخفض"، أو "الضحك الهابط"، حول العالم.
في تسعينات القرن الماضي تشكلت فرقة السنافر في العراق -وهو نموذج يمكن الانطلاق منه من بين مئات النماذج حول العالم- هذه الفرقة التي تضم عددا من المشاهير الأقزام، على رأسهم عدي عبد الستار، وماجد خليفة، وفائز سنفور، كانت تستهدف الأطفال لتقديم محتواهم الترفيهي، وبعد مضي عقود، ظل الممثلون موضوعا للضحك حتى في المسلسلات الدرامية اللاحقة التي شاركوا بها، وبتتبع مسيرة أحدهم، فإن الفنان فائز سنفور كان أكثر الممثلين المقيدين بالصورة النمطية لـ"الضحك الهابط"، لا سيما في المقالب التي يكون فيها ضيفا، والمسرحيات التجارية الهابطة.
انتهت مسيرة فائز السنفور في 2021 نهاية مأساوية، بعد أيام من انتشار مقطع مصور وثق الحالة المزرية التي مر بها الفنان، وهو مدمى وبحالة غير طبيعية، قيل إنه تعرض خلالها للضرب، وقال آخرون إن ما حدث له سببه المقالب "الهابطة"، التي كان الممثل ضيفها الدائم.
ينبه الكثيرون على النتائج السلبية المترتبة على "الضحك الهابط" في التأثير على نظرة الناس لقصار القامة بل ويخدش كرامة قصار القامة أنفسهم. الأمر الذي يمكن التماسه بوضوح على منصات التواصل الاجتماعي، فما إن تبحث في هذا الموضوع حتى تجد أن الخوارزمية التي تحكم هاتفك قد تحول معظمها نحو محتوى يتعلق بحسابات مخصصة للسخرية من قصار القامة، أو أشخاص من قصار القامة يقدمون محتوى ترفيهيا مبنيا على السخرية من أنفسهم.
على منصات التواصل، سيجد قصار القامة أنهم يعيدون انتاج مصير أسلافهم كما لو أنه مصيرهم الحتمي، فعملية رمي "الأقزام" إلى الحيوانات المفترسة في العهود القديمة، سُيعاد إنتاجها إلى رميهم في الحانات (Dwarf-tossing)، ومن ثم رميهم إلى حيوانات مفترسة ضمن مقالب ساخرة في مقاطع مصورة تهدف إلى أن تكون دعاية إعلانية أحيانًا. وسيعاد انتاج استخدام "الأقزام" في البلاط، إلى استخدامهم في اللقاءات التلفزيونية، والفعاليات الرياضية، والدعايات الإعلانية.
"الضحك الأرضي"
من بين بعض المقاطع المخصصة للسخرية من ذوي الإعاقة وقصار القامة، يظهر صاحب المقطع وهو يحاول أن يكتم ضحكته، وخلفه صورة رمزية للمسيح وهو ينظر إليه، في تذكير ساخر لتحريم هذا النوع من الضحك.
وهو أمر التفت إليه مسبقا سنادرز في كتابه "الضحك"، حينما أشار إلى الهجمات اللسانية والقانونية والكنسية في القرن السادس عشر في إنجلترا على الضحك، والتي انتجت الضحك المكتوم (غير الهوائي)، وهو "ضحك يجري مثل نهر تحت الأرض"، على حد تعبير الكاتب، وهو الوقت الذي تنامى خلاله "ضحك الفلاحين"، الذي ارتبط بالأرضي والهابط.
"الفخر المفاجئ"
النظريات التي تفسر الضحك اليوم عديدة، لكن إحداها تفسر بدقة هذا النوع من الفكاهة، وهي نظرية "التفوق والاستعلاء"، والتي أثيرت لأول مرة من قبل توماس هوبز، وتعريفه الشهير للضحك على أنه "افتخار مفاجئ" أو انتصار يأتي من إدراكنا بأننا نحوز مرتبة من المعرفة والوعي أكبر وأعلى شأنا من تلك التي يحوزها غيرنا.
وفقا لهذه النظرية، بحسب كتاب "في جوف النكتة"، إننا نضحك (نسخر) من سلوك السكارى والحمقى، وقد نضحك الضحكة نفسها بسبب مشهد شخص يتصرف بغباء، ويشار إلى أن "أصحاب العاهات أو أصحاب الإعاقات، أو قصار القامة يجري توظيفهم إلى جانب المهرجين للغرض ذاته".
إذ إن الضحك ضمن النسق الاجتماعي، ينطوي في العادة على إشارة إلى عضوية الضاحكين في مجموعة تعد نفسها أرقى من المجموعة الأخرى التي يصادف أن تكون هي موضوع النكتة والسخرية والإضحاك"، بحسب الكتاب.