05-ديسمبر-2021

كان العثمانيون ينظرون للعراقيين كغرباء (فيسبوك)

سأضع ملاحظتين لغرض إجراء مقارنة بين بيئتي وأبطال روايتي "النخلة والجيران" و"خمسة أصوات" للروائي العراقي غائب طعمة فرمان. وشيئًا فشيئًا سيتبيّن الغرض من هذه المقارنة.

في رواية النخلة والجيران لا يوجد أي ذكر لمؤسسة عراقية فاعلة تُحرّك الحدث أو تثيره

تجري أحداث رواية "النخلة والجيران" في أربعينيات القرن الماضي في نهاية الحرب العالمية الثانية أثناء انسحاب الجيش الإنجليزي من العراق. غالبًا في منطقة شعبية في بغداد. أما الأبطال فكلّهم لم يدخلوا المدارس باستثناء البطل الرئيس حسين الذي ترك الدراسة.

"صاحب: إذا دخلت المدرسة ميروح..

حسين: وإذا نسيت القرايه والكتابة؟ ست سنين مو قليلة". 

بالمجمل هم يسكنون في بيئة شعبية فقيرة، جاهلة ومريضة ومهملة بشكل تام، وسأضع ملاحظة أوّلية على هذه النقطة: "مجتمع رواية النخلة والجيران مجتمع بغدادي شعبي أمّي بالكامل".

في المقابل تكون أحداث رواية خمسة أصوات بعد 10 سنوات من أحداث رواية النخلة والجيران، أي في العالم 1954، في بغداد أيضًا وفي حواريها الفقيرة، لكن الفارق الذي يجب أن يُلاحظ أن الأبطال الخمسة – 4 منهم أولاد فقراء وبعضهم ليسوا من سكنة بغداد - كلّهم متعلمون بشكل جيد جدًا وأصحاب شهادات عليا، كما أنهم مؤهلون لكي يكونوا صحفيين.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة الاستبداد.. اغتيال الصحافة في الرواية العراقية

لنسجل الملاحظة الثانية؛ في رواية النخلة والجيران لا يوجد أي ذكر لمؤسسة عراقية فاعلة تُحرّك الحدث أو تثيره – "تتمنّى" سليمة بناء مستشفى عيون بينما "يتمنّى" صاحب أبو البايسكلات بناء مدرسة بنات – في حين أننا في رواية في خمسة أصوات نجد ذكرًا لـ"مستشفى، محكمة، دائرة بريد،  إذاعة، مدارس، سجن".

السؤال الذي أود طرحه ومناقشته من هذه المقارنة هو كيف يمكن أن ينمو المجتمع البغدادي في سرد فرمان خلال هذه المدة الزمنية البسيطة بين زمن الروايتين بهذا الشكل، بحيث نتحول من مجتمع أمّي خالي من المؤسسات الفاعلة في السرد، لمجتمع أبطاله متعلّمون وتظهر فيه مؤسسات الدولة بشكل واضح؟

لكن قبل هذا؛ هل كان العراق دولة ولديها سرد؟!

في كتاب المحتوى والشكل يذكر هايدن وايت نصًا عن هيجل "فقط في دولة تدرك القوانين، يمكن لمعاملات محددة أن تحدث، مصحوبة بوعي واضح يوفّر لها القدرة ويوحي بضرورة وجود سجل دائم"، ما يعنيه هيجل في النص السابق أن الدولة بمعناها الرسمي التي تسيطر على القوانين يمكنها هي فقط أن تُنتج سردًا يصنع شكلاً حقيقيًا للدولة يظهر من خلال سجلاتها.

بالإضافة إلى مصادر الكتب، سأستعرض وسأعتمد على بعض الأخبار الموجودة في الصحف منذ نهايات القرن التاسع عشر لغرض البحث عن سرد دولة في العراق. اختياري للصحف مُعزّزة بمصادر الكتب، هو لأنّها خبرُ حدثٍ مباشر غير خاضع للدراسة المعمّقة من قبل كاتبه، فما يقوله السرد العادي أفضل بكثير مما يقوله السرد المحترف من ناحية قراءة وتوثيق المعلومات.

في العام 1873 كتبت جريدة "زوراء" التي تصدر في بغداد مقالًا عن تمرّد عشائر عراقية جاء فيه "لا يخفى أن عشائر س عبارة عن قبائل متعددة، القسم منها داخل متصرفية الزور وسورية، ومقدار منها داخل ولاية بغداد، لكن مأوى الجميع ومسكنها ليس بمعلوم.. كل يوم هم في مكان ولا يزالون حاملين خيامهم على ظهورهم.. وقد حصروا معيشتهم  في إضرارهم أبناء جنسهم ونهب أموال أبناء السبيل".

تُضيف الصحيفة "كانت ولايات بغداد وحلب وسورية الجليلة قد رتبت عساكرها وساقتها عليهم بالدفعات لأجل تأديبهم وقمع أحوالهم الممزوجة بالشقاوة فلا حاجة للتفصيل أكثر من هذا".

لم تكن هذه الحالة  - الصراع بين العشائر العراقية والدولة العثمانية - حالة خاصة بالعشيرة السابقة. بل أن أغلب عشائر العراق كانت في صراع مع بعضها ومع الدولة العثمانية. ولم يكن هناك مؤسسة أمنية فاعلة بطبيعة الحال. ففي كتاب الصحافة العراقية، يذكر منير بكر التكريتي "أصبح اللصوص وقطاع الطرق يرتكبون جرائمهم نهارًا وهم في مأمن من العقاب، ما عدا بغداد والموصل فكانتا أهون شرًا إذ لم تكن الأعمال اللصوصية فيها تتعدى السرقات الفردية في جنح الظلام.. أما البصرة فقد كان الناس يحرسون ممتلكاتهم بأنفسهم، ويدافعون عن حياتهم بسلاحهم كأن لم تكن هناك حكومة ولم يكن هناك قانون".

مضافًا لذلك الإهمال الأمني، فلم يكن التعليم بحال أفضل ولم تكن هناك مدارس كافية لتعليم العراقيين القراءة والكتابة، كتبت زوراء في العدد 317 "والذي لاح لنظر الأسف إن كافة مكاتب المسلمين الموجودة في جانبي الكرخ والرصافة هي عبارة عن احدى وأربعين مكتبًا والصبيان الموجودة فيها بمقدار 1500 تلميذ"، وسيكون أسف كاتب المقال مفهومًا ومُبررًا لو عرفنا أن عدد نفوس بغداد في ذاك الزمن يقارب المئة ألف نسمة، بحسب صحيفة زوراء.

يذكر علي الوردي في كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" أن "الدكتورجون فانيس عندما جاء إلى العراق في عام 1903 أدرك بأن المجتمع العراقي في حاجة ماسة إلى مدارس حديثة يجري التعليم فيها باللغة العربية، وليس بالتركية التي كانت سائدة في مدارس ذلك العهد، ولما فاتح الوالي بقصده أجابه متهكمًا: ما أنت وإضاعة وقتك في تعليم الحمير".

أما عن الطب والصحة، فالوضع لا يقل سوءًا عن سابقيه. تتحدث صحيفة زوراء في العدد 321 عن المعالجين الجوالين "قد لاح في عيون التأسف، ما عدا تحصيلهم الشهادتنامه بأيديهم فإنهم ليسوا في زي الحكماء ولا في قيافة الأطباء وقد عقد أحدهم بعض الأدوية في الخرق العتيقة وهو أشعث أغبر حافي الرجل مكشوف الرأس  يدور في الأزقة والأسواق يطبب الناس".

ويؤكد الدكتورهاشم الوتري ما ذكرته صحيفة "زوراء" عندما يتحدث عن الطب في العراق خلال زمن الاحتلال العثماني في كتابه "تاريخ الطب في العراق" وبألم يبدو واضحًا جدًا في كلماته، يقول الدكتور الوتري "بقت بغداد حتى الحرب العامة ميدانًا فسيحًا لعبث الدجالين والمشعوذين ومرتعًا خصبًا للمتطببين وأصحاب الخرافات، وكانت النساء يلعبن دور الأطباء فيصفن العقاقير والسموم ويداوين العيون ويفتكن بالصحة، وكان البعض من المرتزقة والمشعوذين يستخدمون الدين لأغراضهم فينتشرون ببزات رجاله يبيعون الأدعية والطلاسم ونحو ذلك".

أما فيما يخص الضرائب، فإن أغرب أنواعها واسوأها على الإطلاق قد فرضه العثمانيون على العراقيين، كتبت "زوراء" في العدد 516: "إن أخذ الخمسين غرشًا التي هي إلى الآن تؤخذ من العشاير القاطنين في الخيام على كل بيت واستحصالها ليس بصورة منتظمة ومن أجل ذلك خالط هذه القضية فساد كثير جدًا وأكثر الأحيان لا يُعطى بمقابل الدراهم التي تؤخذ من الأهالي عِلم وخبر، فؤتخذ منهم الدراهم تكرارًا وتبقى مكتومة بيد هذا وذاك".

لنتخيل فقط أن هناك ضريبة على "خيم البدو" وحتى أبلهم وأنها تؤخذ أحيانًا مرارًا بسبب سرقات الموظفين المسؤولين عن هذه الجباية! إن هذه الضرائب نتيجة طبيعية لفساد الولاة العثمانيين الذين كان الحال يصل بهم لشراء الولايات للمتاجرة والربح. أحد الفقرات المهمة في كتاب داود باشا ونهاية المماليك تختصر المسألة بوضوح تام ومن الطبيعي أن تُعرض ولاية بغداد في سوق المتاجرة، فقد جاء في غرائب الاغتراب: "واتفق أن كتب بعض الأشهاد على بيع المشائخ لبعض الناس وزارة بغداد" فإذا اشترى الوالي منصبًا فلا بدّ أن يعيد أمواله التي اشترى بها هذه الولاية.

بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون هناك خطاب للدولة العثمانية في العراق بناءً على المعطيات المختصرة السابقة. فماذا يمكن أن نتتج هذه العشوائية والإهمال المتعمّد في الأمن والصحة والتعليم والقانون غير عراقي لا يكترث لما يحصل حوله، أو عراقي عدواني تجاه ما تملكه الدولة!

نقرأ في مذكرات ادموند كاندلر وهو أحد الذين رافقوا قوات الاحتلال البريطاني مشاهد عن بغداد في العام 1917 بعد انسحاب العثمانيين منها "عندما تقدمنا في المدينة  – يقصد بغداد - شاهدنا العديد من اللصوص والسّراق يحملون الشبابيك والمناضد وهياكل أسرة النوم الثقيلة المصنوعة من الخشب أو الحديد، كذلك المقاعد وأسيجة الحدائق العامة لقد أزالوا كل شيء كان من السهل إزالته". ما يؤكد مقولة ادموند كاندلر أبيات من الشعر في صحيفة العرب العراقية العدد 32 في 1917 والتي وقّعت باسم «ابن ماء السماء» جاء فيها:

للسلب والنهب بين الناس معترك

لكن قتلاهم في السوق أموال

في قصيدة ثانية يقول ابن ماء السماء لائمًا الترك والعرب، عند مشاهدته لآثار تفجير بقايا سور بغداد الذي نسفه العثمانيون عند انسحابهم:

رأيت أحجاره في الأرض قد نُثرت

بالانفجار وطول النثر أميال

والناس تحمل أنقاضًا مبعثرة

على الظهور وفوق الأرض أحمال

وقفت وقفة مدهوش أناشده

ودمع شعري على القرطاس سيّال

يا سور بغداد إن الترك قد نسفوا

منك البقايا فساءت منك أحوال

والعرب قد نهبوا آثار مجدهم

وذاك داء لهم في النفس قتّال

 في الحقيقة، لا يؤكد نص ادموند كاندلر وأشعار المسمى بـ"ابن ماء السماء" إلا شيئًا واحدًا، هو أن الفرد العراقي بصورة عامّة لم يكن يشعر أن العراق بلده، وأنه ليس لديه حتى ذاك الوقت شعور حقيقي بالانتماء ولا حتى رغبة شعبيّة عامّة في قتال الإنجليز. وهو يعني أيضًا أنه لم يكن هناك سرد دولة يصنع مواطنًا، ببساطة لأنه لم تكن هناك دولة توجّه له خطابًا يعزز من عراقيته، فحتى المُصلح مدحت باشا الذي في زمنه تطور العراق نوعًا ما، قال في خطبة طويلة له عندما جاء للعراق وبعد أن مجّد السلطان والدولة العثمانية "ولكن الخراب المستولي، وعدم النشاط، ناجم عن تقصير الأهلين، فلم يسلكوا ما سلكته الأمم، وإنما تُرك كل أمرء وشأنه.. ولا منجاة من هذه الورطة إلا بالانقياد إلى المتبوع الأعظم (السلطان)".

هكذا نرى أن الدولة العثمانية - في أفضل حالاتها - ما كانت تخاطب العراقي إلا لكي تعزّز شعوره بالانتماء للسلطان وللدولة العثمانية، وتحاول أن تنتزع منه انتماءه الحقيقي للعراق كي يصبح منقادّا وتابعًا لا غير.

العثمانيون خلال أربعة قرون من الاحتلال لم يكونوا ينظرون للعراقيين إلا بصفتهم غرباء

إن النظرة الأخيرة التي تلقيها عيون الدولة العثمانية تتمثل في نظرة "العطف" التي ألقاها الوالي مدحت باشا عندما قرر في العام 1872 إنشاء أول مستشفى في العراق العثماني، والتي كانت تحمل اسم مستشفى "الغرباء". وهنا تكمن المفارقة المؤلمة، فهذا المشفى لم يتم تشغيله بسبب عدم وجود أطبّاء كافين في حينها، وتحول لمدرسة ومن ثم لبناية برلمان، وطالتها يد الإهمال أكثر مما طالتها يد الإعمار.

لم يتم تسمية المستشفى باسم الوالي مدحت باشا، ولا باسم السلطان، ولا حتى باسم العراق أو بغداد، بل تم تسميته بمستشفى الغرباء.

ماذا تعني هذه التسمية؟!

ببساطة، هي تعني أن العثمانيين خلال أربعة قرون من الاحتلال، لم يكونوا ينظرون للعراقيين إلا بصفتهم غرباء. مرضى، مُهملون، لا يستحقون العلاج، وليسوا أمّة أبدًا.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سعد محمد رحيم.. أهوال الحياة العراقية

سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني