24-مارس-2020

انقضى الأسبوع الأول الآن من الحظر وعوائل عراقية فقيرة لم تعمل (Getty)

حين يولد المرء لا يجلب معه سوى رصيد مفتوح الصلاحية بممارسة الحياة، رصيد يخبره بأنه بعد هذا الخروج القسري، ثمة موت ينتظرك، موت يعيدك عاريًا مرة أخرى، كما ولدت. ويسير المرء متناسيًا لحظة اختفائه، حتى يلمس الخوف بيديه، مثلما حدث مع المحنة الجديدة التي فتح العالم عيونه عليها مفزوعًا حين استيقظت الصين على انتشار فيروس "كورونا" وهو يأكل بأرواح الناس. وبالوقت الذي لم يجد أي أحد العلاج لهذا الفيروس، سرعان ما تفشى في العالم حتى وصل العراق.

دخل فيروس كورونا في العراق في الوقت الذي كان فيه المواطنون ينظمون الاحتجاجات ويودعون الشهداء في سوح التظاهر 

دخل الفيروس في الوقت الذي كان فيه المواطنون ينظمون الاحتجاجات ويودعون الشهداء في سوح التظاهر. إنه العراق الذي يلمس الموت كل يوم ويتعايش مع الأزمات، لا بدّ له أن يعد العدة لأزمة جديدة تخبر بكارثة موت مقبلة.

اقرأ/ي أيضًا: العالم في قبضة كورونا

لكن السؤال الذي نسأله كل يوم مع ازدياد حالات الإصابة وتفشيها في المحافظات العراقية؛ من المسؤول عن انتشار فيروس كورونا في العراق؟! في الصين مثلًا، كان السبب في انتشار الفيروس بالبداية، هو أن الحكومة الصينية أخفت عمدًا ولم تتحدث بخطر الفيروس، بل لم تتعامل بجدية مع تحذير أحد الأطباء من انتشار الفيروس، وعاقبته حتى مات بسبب الفيروس ذاته! فضلًا عن ما يشيع عن تناول الحيوانات التي تسبّب الفيروس، كالخفافيش والثعابين، خاصة وإن ثقافة الصين الشعبية متمسكة باستهلاك تلك الحيوانات، لكن، وبالرغم من هذا، سرعان ما أعلنت الدولة حظر استهلاك وتجارة الحيوانات البرية، ثم فاجأت العالم ببناء مستشفى خلال 10 أيام فقط، وأغلقت حدودها، رغم أنها ناقلة للمرض وغير مكتسبة. الصين التي يحكمها الاستبداد، كانت تشن حربًا مع المرض لضمان سلامة مواطنيها، إلى أن سيطرت عليه وقلّلت من انتشاره داخليًا.

في العراق، كان سبب الاحتجاجات والفيروس واحدًا؛ المنظومة السياسية وتجار الدين. كان يمكن السيطرة على الفيروس والحد من انتشاره في بدايته بطريقة أكثر جدية، لا سيما، وإن العراق تأخر في استقبال الفيروس، لكنها المرة الأولى التي أرى فيها الحكومة العراقية "ديمقراطية"، حيث أعطت الحق لكل مواطن باكتساب المرض. لقد تركت الحدود مفتوحة على مصراعيها لأيام، وبعد إغلاقها، استمرت الرحلات الجوية، فكانت أول إصابة ساهمت في تفشي المرض بالعراق قادمة من إيران، مثل قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي في أيام الاحتجاجات!

استغاثات كثيرة كانت تصدر من أغلب المواطنين، لكن الحكومة لم تستجب ولم تسمع، فتزايدت حالات الإصابة مع تراجع الوعي الصحي بهذا المرض، وتأثير رجال الدين أيضًا، الذين ساهموا في تفشي الفيروس حين دفعوا الناس على تجاهل خطره. ففي الوقت الذي تمنع فيه التجمعات، لأن الفيروس ينتقل عن طريق اللمس والسعال، كان أحد رجال الدين جالسًا على المنبر وأمامه حشد من الناس، وهو يقول: آنه إلي جرأة ما أبوس شباچك يا حسين خاف بي مكروب؟! ويقصد هنا ضريح الإمام الحسين، الحسين الذي قُطع رأسه ومات كسائر البشر، ثم يسترسل: "هالله هالله بمجالس الحسين، هذا الطاعون حدث مثله سابقًا في سامراء، وأربع كلمات ما خسر ذلك الرجل الذي قال: اقرأوا زيارة عاشوراء، نفرين فقط ما قرأوا، أصيبوا بالطاعون"!

رجل الدين هذا يريدنا أن نقضي على فيروس شل حركة العالم وأكل رئات الملايين بـ"الدعاء والاستغفار"، وعلى ما يبدو، أنه نسي قوله تعالى: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"، ويبدو أنه كان حافظًا للدين غير فاهم، فمهنة رجل الدين أن يبيع للناس الكلام الذي يريح قلوبهم ويتلاءم مع ما يمرون به من أزمات واختلافات، أما مهنة التاجر أن يبيع كل الذي بجعبته دفعة واحدة. رجال دين كهذا يريدون استمرار مثل هذه المجالس لمصالح شخصية تعود عليهم بالنفع، حتى لو كانت على مصلحة الحشود التي تسير وراءهم ـ لظروف كثيرة ـ بعيون مغلقة!

هناك عوائل كثيرة تعتمد في معيشتها على الكسب اليومي من المال، وانقضى الأسبوع الأول الآن، وهذه العوائل لم تعمل

بعد أيام من هذه الحادثة، فرض حظر التجوال في عموم العراق للحد من انتشار المرض، ولكن من سوء الحظ، مصادفة زيارة الإمام الكاظم في 25 رجب، 20 آذار/مارس، وهو ما جعل الآلاف من المواطنين الذين ينتمون للطائفة الشيعية يتوافدون مع عوائلهم لأداء مراسم الزيارة، وكأنهم يريدون أن يقولوا  "نحن هنا"، لم يخيفنا أي شيء، هذه آثارنا وبصماتنا، ملتحفون بحجج الشفاء بعد الزيارة!

اقرأ/ي أيضًا: كورونا.. الديمقراطية بين قوسين

وفي الأثناء أيضًا؛ وجهت إحدى النساء المنتميات للتيار الصدري دعوة لكل من إيران والصين وإيطاليا بالمجيء لزيارة الإمام الكاظم، وتعهدت في حال لم يتم شفاءهم من المرض، فليقتلونا جميعًا نحن جماعة التيار الصدري! ومثل هذه الجماعات هي نتاج الأنظمة السياسية المتعاقبة وتجار الدين الذين يفرضهم وجود هذه الأنظمة. وكلما جاء نظام ترك الآثار الكارثية التي يخلقها النظام الذي قبله في الجماعات التي لم تأخذ حصتها الكافية من الوعي. تبقى الأزمة سياسية كانت أم اجتماعية، مفتوحة في العراق لتتفاقم، فتولد أزمات أكبر وأكثر تأثيرًا.

إلى الآن لم تعالج أي حكومة الآثار السلبية التي تطرأ بعد كل أزمة، وعلى سبيل المثال، في الاحتجاجات، يعيش الشباب في الشارع منذ 6 أشهر، ينامون على الأسفلت، وهم يطالبون بمطالبهم المشروعة؛ هل فكر السياسيون ماهي الآثار السلبية التي ممكن أن تطرأ على أي شاب ترك منزله وعاش عدة شهور في الشارع؟! واليوم نطرح نفس السؤال؛ ما هي السلوكيات التي من المحتمل أن تظهر إن استمر حظر التجوال؟ هناك عوائل كثيرة تعتمد في معيشتها على الكسب اليومي من المال، وانقضى الأسبوع الأول الآن، وهذه العوائل لم تعمل. من أين يجلب رب المنزل المال كي يعيل عائلته؟ هل تمطر السماء؟!

وللحد من الأزمات التي يفرضها الحظر، على الحكومة أن توزع المؤونة لمواطنيها في ظل هذه الأزمة التي تشكل خطرًا على العالم أجمع، لأن المواطن الذي يلمس الموت كل يوم وهو جائع معرّض لأن يكون سارقًا أو مجرمًا، كما أنه معرّض إلى أن يرمي نفسه بالتهلكة.

في الغد، ربما سيخلع العالم كمّامته مبتسمًا وهو يعلن إيجاد اللقاح الذي يقضي على الفيروس أو يسيطر عليه، لكن في العراق؛ كيف سنقضي على الفيروسات المستمرة بالانتشار على كراسي السلطة ومنابر التجهيل وغسيل الأدمغة؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فيروس الديانة الشعبية القاتل

دروس الكورونا السبعة