31-مارس-2020

يؤمن أغلب رجال الدين بـ "نظرية المؤامرة" (Getty)

لم تكن هذه المرة الأولى التي يحل فيها الوباء ضيفًا ثقيلًا على العرقيين قادمًا من دول الجوار؛ لتحل بهم الكارثة، والتي يتعاظم أثرها جراء تمسك بعض رجال الدين بأفكارهم الأسطورية وأوهامهم المقدسة، حيث ينقل الدكتور علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق انه في "سنة 1830 كانت بغداد على علم بتفشي الطاعون في تبريز، وبعد شهرين وردت الأخبار عن وصوله إلى كركوك، فطلب داوود باشا من طبيب القنصلية البريطانية إعداد منهج للحجر الصحي بغية منع الوباء من التقدم نحو بغداد، وقد أعد الطبيب المنهج ولكن المتزمتين من رجال الدين في بغداد، أفتوا بأن الحجر الصحي مخالف للشريعة الإسلامية، ومنعوا داوود باشا من اتخاذ أي عمل لصد سير الوباء، ولهذا كانت القوافل الواردة من إيران وكردستان تدخل بغداد بكل حرية.

لعب بعض رجال الدين دور أسلافهم بعد تفشي وباء "كورونا" في محاولة لمواجهة العلم بأسلحة الخرافة والجهل

وكانت نتيجة لذلك أن حلت كارثة بالعراقيين خلفت ضحايا بالجملة، ولم تعصمهم آنذاك، أوامر رجال الدين الذين قرروا التشبث بالمراقد والمساجد طلبًا للنجاة من الوباء المميت!

وينقل الوردي أيضا في كتابه "إن عدد الجنائز التي أخرجت من أبواب المدينة في أواخر شهر آذار/مارس بلغ الألف، وفي أواسط شهر نيسان/أبريل بلغ العدد ثلاث آلاف جنازة يوميًا حسب ما ضبط في سجلات الموظفين..... وقد عمد الأوربيون الذين كانوا في بغداد، والمسيحيون المتصلون بهم، إلى حجر أنفسهم في بيوتهم لا يخرجون منها وذلك بعد أن جهزوا أنفسهم بما يلزمهم من مواد التموين، وكانوا إذا اضطروا إلى أخذ شيء من الخارج سحبوه إلى فوق من الشبابيك ثم امسكوه بملاقط ودخنوه قبل البدء باستعماله، ولهذا كانت الإصابات بينهم قليلة نسبيًا، وكانت تأتي إليهم عن طريق القطط أحيانًا، أما سائر السكان فقد استسلموا للقدر وأخذ الطاعون يحصدهم حصدًا حتى قيل إن عدد الموتى في اليوم الواحد بلغ أخيرًا تسعة آلاف".

اقرأ/ي أيضًا: كورونا في العراق.. فيروسات السلطة والمنابر

وفي دراسة نشرت في مجلة القادسية 2015، والتي جاءت بعنوان (الأمراض والأوبئة التي اجتاحت العراق في العهد العثماني) يشير الباحث العراقي علي حمزة السرحان، إلى أن "الوباء غالبًا ما يضرب بقوة في مدينتي كربلاء والنجف، نتيجة تزاحم القاصدين والحجاج، والزائرين لها من خارج العراق، إضافة إلى نقل كثير من الجنائز من داخل وخارج البلاد لدفنها في كربلاء والنجف، حيث يؤكد الفقه الشيعي أن الدفن في هذه البقع له فضل ديني خاص.

ويتابع السرحان: "في عام 1784 ظهر الطاعون في مدينة النجف الأشرف، فحصد الكثير من أهلها، ويعود سبب تفشي الطاعون فيها لكثرة الوافدين إليها من البلدان المجاورة، والجنائز القادمة من إيران من أجل دفنها في النجف، مما يؤدي إلى انتقال المرض إلى باقي الأهالي من خلال اختلاطهم أثناء موسم الزيارة. وفي عام 1830 ضرب الطاعون مدينة النجف مجددًا، وأخذ الوباء في الانتشار فبلغت الوفيات 300 شخص كل يوم، وتوفي عدد من أعلام النجف بذلك الوباء. وفي سنة 1845 تفشى الطاعون في بغداد، ثم حل بالنجف، ففر أكثر أهلها، وتوفي كثير من أعلامها، أبرزهم الشيخ حسن كاشف الغطاء".

وفي عام 1904 اجتاح النجف طاعون آخر، فأصدرت مديرية الصحة العامة أوامرها بعدم حمل الموتى إلى النجف، حتى مُنع أهل النجف أنفسهم من الدفن في الصحن العلوي، وضربت المدينة الحرس من داخلها وخارجها.

ويؤكد السرحان، أن "الأرقام والروايات تبين أن وباء الطاعون هو وافد من خارج العراق، يفد غالبًا من الهند وإيران عن طريق الزوار والقوافل التجارية، ويتركز غالبًا في المدن الحدودية، وفي الأماكن المقدسة - كربلاء والنجف- نتيجة لدخول الزوار والسياح إليها والاختلاط مع السكان المحليين مما أدى إلى تفشي ذلك الوباء، فضلاً عن انعدام الخدمات الصحية من جانب آخر".

وتشير بعض المصادر التاريخية، إلى أن عدد الجنائز التي تنقل سنويًا إلى النجف، أواخر العهد العثماني، كان يصل إلى عشرين ألفًا، من داخل العراق وخارجه، منها في المتوسط 5300 جثة من إيران، وكان التجار ووكلاؤهم يسافرون لجمع الجنائز ثم نقلها لدفنها في مدن العتبات المقدسة، ورغم محاولات منع الدفن عام 1904 لمحاصرة داء الكوليرا، إلا أن نشاط تهريب نقل الجثث كان مستمرًا من إيران الأمر الذي فاقم سوء الأحوال الصحية، وأدى إلى تفشي الطاعون كل مرة.

هل تعلموا الدرس؟

وبعد مرور مئات السنين على هذه الحوادث والقصص يعيد بعض رجال الدين دور أسلافهم نفسه ويتبعون سبيلهم حذو القذة بالقذة، ولم يتعلموا دروس التاريخ؛ فبقوا قابعين في العتمة، محاولين الانتصار على العلم وهم لا يمتلكون غير أسلحة الخرافة والجهل، واستحمار، الناس والتعامل معهم كأنهم فئران مختبرات!

فبعد دخول فيروس كورونا (كوفيد 19) العراق، رفض معظم رجال الدين غلق الأضرحة الدينية والمساجد والعمل على إقامة الطقوس الدينية كأن شيئَا لم يكن، رافضين بذلك إرشادات خلية الأزمة ومتحدين في الوقت نفسه الحظر الذي فرضته السلطة، مستهترين بأرواح الناس وملقين بهم بين أنياب وباء لا يرحم.

هادي المدرسي رجل دين عراقي بدرجة آية الله، مقيم في إيران ظهر في فديو مصور وهو يتكلم عن وباء كورونا، إذ عد انتشاره "أمرًا من أوامر الله الواضحة؛ بسبب طغيان نظام الحكم الصيني تجاه المسلمين، بعد فرض الحصار والإقامة الجبرية على أكثر من مليون مسلم، والسخرية من نقاب المرأة المسلمة وإجبارهم الرجال على أكل لحم الخنزير وعلى شرب الخمر، لذلك سلط عليهم الله هذا المرض والذي أدى إلى حصار 40 مليونًا منهم، وجعلهم يرتدون النقاب الذي سخروا منه بأمر الدولة نفسها....".

لكن المرجع الديني، سرعان ما تراجع عن موقفه بعد إصابته بالوباء هو وعائلته وأودع جراء ذلك في الحجر الصحي، وإذا كان المدرسي قد عد انتشار الفايروس "أمرًا من أوامر الله ضد الصينين"؛ بسبب معاملتهم السيئة للمسلمين، فإن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ذهب عكس ذلك تمامًا إذ عد الفايروس جنديًا من جنود الله، "هدفه ابتلاء المؤمنين لكنه لا يصيب الذين ظلموا والملحدين"! وطالب كذلك بعدم إغلاق المراقد الدينية ودور العبادة، وصفًا الذين يغلقونها بـ"الخائنين".

 كما حث الصدر أنصاره على أداء زيارة الامام الكاظم الإمام السابع عند الشيعة في ذكرى وفاته والتي حلت في 19 آذار/مارس، في الوقت الذي تجاوزت الإصابات حاجز الـ200 حالة آنذاك، فيما تم تسجيل 20 حالة وفاة وفق البيانات الرسمية.

تملص بعد الكارثة!

لكن الصدر وكعادته تملص من مواقفه بعد يوم واحد فقط، وبدا كأنه شخص آخر، وذلك  بعد موجة النقد والسخرية من مواقفه ومواقف أنصاره الذين كسروا قواعد السلامة الشخصية والتحذيرات الصادرة عن الجهات الرسمية ونصائح بعض مراجع الدين حتى، بعدم التجمع للحيلولة دون تفشي فيروس كورونا بين الناس، حيث أقاموا صلاة الجمعة في عموم محافظات العراق كما أنهم اعتدوا على القوات الأمنية التي فرضت حظرًا للتجوال.

إثر ذلك وقع المحذور وطوقت مدينة الكاظمية بعد تسجيل ارتفاع في عدد الإصابات، ثم عزلت مدينة الصدر، حيث غالبية أنصار زعيم التيار الصدري في بغداد، واضطر الصدر إلى توجيه أتباعه بالالتزام بتوجيهات وزارة الصحة، وهددهم بالتخلي عنهم والبراءة منهم، ليجد نفسه محط انتقادات وسخرية في مواقع التواصل الاجتماعي.

مواقف بعض رجال الدين السنة لم تكن أقل سوءًا من رجال الدين الشيعة، ولم تختلف كثيرًا عنها لكن لم يتراجعوا عن مواقفهم حتى هذه اللحظة، إذ رفض مفتي أهل السنة الشيخ مهدي الصميدعي غلق المساجد وأصر على فتحها وإقامة صلاة الجمعة دون الاكتراث بالمخاطر المهلكة التي تحدق بالمجتمع العراقي جراء تفشي الفيروس.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا وسلطة "البيت الشيعي"

أما الروزخونيون (رجال دين من الدرجة الثالثة فما دون) فيكفي أن نعرف أنهم دعوا إلى اقتحام المراقد المقدسة وكسر الحظر الذي تفرضه الدولة بالقوة غير آبهين بالفيروس الذي عدوه مؤامرة هدفها تهشيم عقيدتهم، كما أعلنوا أنهم مستعدون لتقبيل المصابين بالفيروس من أفواههم!

وتقف وراء تلك المواقف عدة أسباب نجمل أهمها في عدد من النقاط:

  • يؤمن أغلب رجال الدين بـ "نظرية المؤامرة"، لذلك فإنهم يعدون انتشار الفيروس مؤامرة أمريكية تستهدف الدول المسلمة والمعارضة لأمريكا، على الرغم من أن أمريكا أصابها الفيروس وأعلنت حالة الطوارئ! ولنا أن نرجع إلى رسالة مقتدى الصدر إلى الرئيس الأمريكي ترامب إذ جاء فيها "... يا ترامب.. أنتَ وأمثالك متهمون بنشر هذا المرض ولا سيما أنَ أغلب من يعاني منه هم معارضون لأمريكا".
  • إن ثقافة أغلب رجال الدين هي ثقافة نصية، فهم يأكلون بنص، ويتزوجون بنص، ويمارسون سائر حياتهم بنص، لذلك بقيت عقلياتهم راكدة، ولا يمكن لهم أن يخرجوا من الإطار التي رسمته لهم النصوص الدينية، جراء تقديم "النقل على العقل" فهم يعيشون بزمان واحد على حد تعبير محمد عابد الجابري، ويريدون أن يخوضوا حروبهم بسلاح عنترة بن شداد كما يقول الوردي.
  • يعتقد أغلب رجال الدين أن المراقد المقدسة، مستشفيات رديفة قادرة على علاج المرضى، حتى المصابين بالأمراض التي يعجز عنها الأطباء، محاولين بشتى الأساليب إثبات ذلك للمذاهب الأخرى التي تسخر من هذه العقائد، وحين دخل فيروس كورونا رفضوا إغلاقها تلافيًا للحرج الذي وقعوا فيه والذي بدوره يؤدي إلى زعزعة ثقة أتباعهم.
  • يظن رجال الدين، أن تمسكهم بفتح المساجد والمراقد، سيصنع منهم شخصيات أسطورية، ويسجل التاريخ موقفهم هذا بحروفٍ من ذهب، وتزداد شخصياتهم رفعة ومكانة في المجتمع، إذا كان فعلاً هذا الفيروس لا يهدد الناس الذي يلوذون بالمراقد والمساجد، وفي نفس الوقت يحالون تسقيط خصومهم الذين كان موقفهم مغايرًا، الأمر الذي يضعهم في خانة العمالة وخيانة الدين! جاء في تغريدة مقتدى الصدر التي نشرها بتاريخ 19 آذار/مارس، "إن البعض الآخر نادوا بأغلاق دور العبادة والمراقد والمساجد والكنائس التي كانوا يستعينون بها سابقًا على دينهم ودنياهم فهم خائنون".
  • إن إغلاق مراقد أهل البيت والمساجد، يهدد هويتهم الدينية الخاصة (الطائفية) والتي هي جزء مهم من تكوينهم الديني، وبذلك فان إغلاقها يهددهم وبالتالي يفقدون أهميتهم وتبور تجارتهم، كما أن المراقد تعد نوعًا من الدعاية لمذهبهم، "فهي وسيلة من وسائل الدعاية الشيعية، فقد بذل الشيعة أموالًا طائلة، في تشييد مراقد أئمتهم، فطلوا منائرها وقببها بالذهب وزخرفوا دواخلها زخرفة جميلة.. وهكذا كانت ذات أثر بليغ في جذب الناس إلى التشييع"، كما يرى الدكتور علي الوردي.
  • إن رجل الدين يعد نفسه وكيل الإله ومترجمًا لإرادته، محتلًا المراكز العليا، ومحتكرًا الحقيقة وقراءة النص الديني، وبذلك يريد قيادة سفينة الحياة بكل تفاصيلها، باعتبار أن ما من واقعة إلا ولها حكمًا وحلًا في الإسلام، وكل حل خارج هذه المنظومة يعد كفرًا وزندقةً وتشكيكًا بقدرات الإسلام ورجاله، لذلك فهو يحاول دس أنفه في السياسة والاقتصاد والطب والكيمياء والفضاء وغيره، عن طريق الاستعانة بنصوص قيلت قبل 1400 سنة، حيثيظن أنها تأخذ نسقًا متعاليًا على الزمان والمكان، لكنه حين يفشل يحاول تبرير فشله من خلال "ألهنة" مسببات الظواهر العادية (كالمرض أو الفقر أو الظلم أو القتل) ونسب وظيفة نفسية بشرية للإله، كالغضب أو الانتقام، كما لو أن الله أراد أن "يعاقب" الناس بسبب "انحرافاتهم" فـ"ابتلاهم" بهذه الكوارث، ضمن ما يسمى بمبدأ "التشبيه بالإنسان" Anthropomorphism الذي يقصد به إثبات صفات الله عبر التشبيه بصفات الإنسان. كما يقول الدكتور فارس كمال نظمي.
  • ثمة علاقة عكسية بين العلم ورجال الدين، فإن كل تطور تشهده العلوم، يؤدي الى تقليص هيمنة رجال الدين على المجتمع، وبالتالي تنتفي الحاجة شيئًا فشيئًا لإرشاداتهم وأفكارهم التي تريد أن تسير حياة المجتمع بلون واحد، فضلًا عن ذلك فإن رجال الدين يعدون عاملًا رئيسيًا من عوامل الخراب التي تشهدها البلاد، وأن إصلاح أحوال الناس وعقائدهم وأفكارهم يستدعي بالضرورة تحسين أحوالهم المعيشية والاجتماعية والنفسية وهذا غير ممكن لهم، وتعويضًا لهذا يحاولون إنعاش أخيلة الناس بالطقوس الدينية وإشغالهم بالأحلام المقدسة والخرافات فإذا مرضوا نصحوهم بالدعاء وزيارة المراقد، مرسخين فكرة الاستسلام للفقر والبلاء باعتبارهما شكلًا من أشكال الحب أو الاختبار الإلهيين، لكنهم (رجال الدين) يهرعون إلى أفضل مراكز العلاج خارج البلاد أو داخلها كلما ألمت بهم وعكة صحية. يقول الدكتور عبد الجليل الطاهر: إذا كانت البطون جائعة، والأجسام عارية، احتاج الإنسان إلى الأوهام والأخيلة التي تبرر وضعًا اجتماعيًا من دون طعام أو لباس... فإذا تحسنت ظروفه المعاشية فسوف يتحرر من أوهامه وخرافاته"، فالعقائد هي ظواهر اجتماعية أكثر مما هي أفكار مجردة بحسب علماء الاجتماع الديني.

التقلبات السريعة في مواقف هذا النوع من رجال الدين لم تكن بسبب حرصهم على سلامة الإنسان بل بسبب وعي هذا الجيل

كما لابد من الإشارة، الى أن هذه التقلبات السريعة في مواقف هذا النوع من رجال الدين لم تكن بسبب حرصهم على سلامة الإنسان، فلطالما كانوا سببًا في زج الناس في الحروب الطائفية والأهلية التي لا تهدف إلا إلى زيادة نفوذهم ومكانتهم (فقتلوا خلقًا كثيرًا، وسبوا سبيًا كثيرًا، وغنموا مالًا جزيلًا)، فتقلباتهم جاءت بعد تنامي الوعي عند هذا الجيل الذي اقتحم فلك الممنوع وأخذ يسأل ويحاكم وأصبح سببًا في وقوعهم بتناقضاتهم الفجة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الاحتجاجات العراقية وصراع الثقافات السياسية

عصر الجماهير: لا جديد تحت نصب الحرية