29-سبتمبر-2019

ميلان كونديرا (فيسبوك)

ماذا لو قلت أن كونديرا أفضل روائي عالمي يُتفّه أو ربما يُموّه السياسة بكلمات مُبهرجة وبرّاقة. وسأضع نصّين من نصوصه من الممكن من خلالها فهم طريقة تفكيره وكنماذج لتوضيح ما أعني.

عام 1980 قال كونديرا في لقاء تلفزيوني: صنّف شخص ما رواية المزحة، على أنها لائحة اتهامات طويلة للستالينية، فسارعتُ للقول: اعفني من ستالينيتك رجاءً

في غراميات مرحة قصة أدورد والرب، يكتب كونديرا: "تصوّر أنك صادفت مجنونًا وادّعى أمامك أنّه سمكة، وأننا جميعًا سمك. أتراك تجادله؟ أتراك تتعرى أمامه لتقنعه بأنك لا تملك زعانف؟ أتراك تقول له صراحة ما تفكر فيه؟ هيّا قل لي!.. لو أنك قلت له الحقيقة فحسب، واقتصرت على إخباره برأيك الحقيقي فيه، فمعنى هذا أنك توافق على الخوض في نقاش جاد مع مجنون، وأنّك أنت نفسك مجنون كذلك. ينطبق هذا بالضبط على العالم الذي يحيط بنا. فإذا أصررت على أن تقول له الحقيقة بصراحة، فهذا معناه أنّك تأخذهُ على محمل الجد. وأخذُ شيء غير جاد على محمل الجدّ معناه أننا نفقد كل جدّيتنا. فأنا مضطر للكذب لكي لا آخذ مجانين على محمل الجدّ وكي لا أصاب أنا أيضًا بالجنون".

اقرأ/ي أيضًا: الرواية بحسب ميلان كونديرا

إنني لا أحاكم هذا النصّ بوصفه نصًا مُقتطعًا من رواية، فربما تكون الشخصية المتحدثة تافهة أو مازحة أو متهكمة أو أيّ شيء آخر، بالنتيجة هي شخصية في رواية وقد لا تُمثّل وجهة نظر الكاتب. إلا أني أُدافع عن نقدي له، بأن كونديرا نفسه في حواراته يتحدّث بهذه اللغة. ويتجه نحو هذا الهدف.

عام 1980 قال كونديرا في لقاء تلفزيوني "صنّف شخص ما رواية المزحة، على أنها لائحة اتهامات طويلة للستالينية، فسارعتُ للقول: اعفني من ستالينيتك رجاءً. المزحة هي قصة حب". يُضيف كونديرا أنه يكره الأنظمة الشمولية بصفته مواطنًا أما بصفته كاتبًا فأنه لا يقول ما يقوله لإدانة النظام.

ومع أن كونديرا لم يتخذ أي موقف من الأنظمة الشمولية - بصفته مواطنًا منذ خروجه من تشيكوسلوفاكيا - فإنه يُصر على أنه يتجنب الخوض في السياسة أو حتى استخراج موقف منها في أدبه "أمقت دومًا، بعمق وبشدة، أولئك الذين يريدون إيجاد موقف سياسي أو فلسفي أو ديني، الخ.. في العمل الفني، بدلًا من البحث فيه لغرض المعرفة والفهم والتقاط هذا الجانب أو ذاك من الواقع". لنلاحظ هنا أنه وبشكل غريب يستثني السياسية من الواقع.

وبرغم "مقت" كونديرا لمن يبحث عن موقف سياسي في الكثير من رواياته إلا أنه يُجبر القارئ على التفكير في السياسة وملاحظتها، وإلا كيف ستكون بُنية رواياته "كائن لا تحتمل خفّته" أو "الحياة في مكان آخر" أو حتى "المزحة" لو رفعنا منها جزأها السياسي! في الحقيقة ستكون الحبكة في "المزحة" مثلًا. غير قابلة للتطبيق فيما لو كان النظام السياسي الشيوعي - في الرواية - لا يهتم لتروتسكي ولا يعتبره عدوًا له، بل في الأساس لن تكون هناك أية "مزحة".

فكرة كونديرا الأساسية تتمثل في دعواه لتجاوز الكتابة عن الأنظمة السياسية أو اتخاذ موقف سياسي - لذا لا توجد أي شخصية واعية سياسيًا في رواياته برغم وعيهم الثقافي

يتبنّى كونديرا في النصّ السابق - نص الجنون والسمكة - دعوى عدم محاورة العالَم المجنون أو قول الحقيقة بوجهه، وفي الوقت نفسه يُتفّه المجنون ويجعله مُضحكًا وبزعانف كمجانين أفلام شارلي شابلن أو لوريل وهاردي. لكن ماذا نستطيع أن نقول عن هتلر أو ستالين، ماذا نستطيع أن نفعل أمام جنون القرن العشرين؟ هل نواجه هذه الأنظمة التي بالفعل تبعث على الجنون بلا مبالاة. هل من الممكن أن لا نأخذهم على محمل الجد! وأين نذهب بأجيال الأدب والفلسفة التي عاشت صدمة الحربين العالمية الأولى والثانية ونظّروا وفككوا هذه الأنظمة!

اقرأ/ي أيضًا: رواية البطء.. رحلة في عالم غير إنساني

إن فكرة كونديرا الأساسية التي يتحدث عنها في أغلب أدبه، تتمثل في دعواه لتجاوز الكتابة عن الأنظمة السياسية أو اتخاذ موقف سياسي - لذا لا توجد أي شخصية واعية سياسيًا في رواياته برغم وعيهم الثقافي - لكنه يتجاوز أن ما يصنع الإنسان بصورة عامّة، وبالذات في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية هو السياسة.

منذ كتاب أفلاطون "الجمهورية" بدأت التنظيرات السياسية التي تتحكم بكل شيء في إدارة الدولة بالظهور، كان أفلاطون يُفضّل إقامة دولة يقودها صفوة المجتمع، والفلاسفة. وهو يقترح منهجًا تعليميًا لإعداد "قادة المستقبل" نظام يفرض حتى على الحرفيين والشعراء ومصممي الأثاث المنزلي الخاص "بالحرّاس" الألتزام بقواعد خاصة لكي "لا ينشأ حرّاسنا بين رموز الشر كمن يترعرع في مراعي الأعشاب السامّة.. وعلينا أن نبحث عن الحرفيين الذين مكنتهم هبة الطبيعة من الوصول إلى الجمال والفضيلة الحقيقيّتين". بالنتيجة. سيُقصى كلّ فرد لا يمتلك المؤهلات التي تسمح له في البقاء في هذه "الجمهورية". وسيبدو كلّ شيء في هذه "المدينة الفاضلة" مُسيطرًا عليه ومُبرمجًا وخاضعًا لعقل متحكم، هو عقل الفيلسوف والملك. وباستثناء الدعوة للعنف - التي لا يدعو لها أفلاطون - فبماذا يختلف هذا النظام عن الشمولية؟!

إن أفلاطون يحاول من خلال جمهوريته أن يحوّل الإنسان لمخلوق مسلوب الإرادة السياسية. ويبدو لي أن حنة آرنت تُشير إلى مخالفتها لجمهورية أفلاطون، لأنها تعتبر أن "الإنسان حيوان سياسي"، وهي جُملة تتفق بها مع أرسطو وتعارض فيها جملة ديكارت "الإنسان حيوان مُفكّر". تدّعي آرنت، أن ما يجعل الإنسان إنسانًا هو فهمه لحرّيته السياسية، لذا تسعى الأنظمة الشمولية لسحق هذه الحرّية وتجريده منها حتّى تحوّله لشيء أو غرض من ضمن ممتلكات النظام.

وهكذا ومنذ زمن أفلاطون حتى زمن آرنت، كانت السياسية - نظام الحكم - هي التي تتحكم وتُشكّل وتُغيّر عادات وأخلاق البشر، وفي كتاب "تفاهة الشر" تُدافع آرنت عن فكرتها باعتبار أوتو أدولف آيخمان، المُتهم بارتكاب جرائم إبادة ضد الشعب اليهودي، بريئًا. وتتلخص فكرة آرنت - وهي يهودية أيضًا - بأن آيخمان لم يكن سوى أداة تُنفّذ الأوامر، وأن ما منح القوة لهذه "الأداة" هو السلطة، وبتجريدها من السلطة ينتفي عنصر "الشر" فيها ويُصبح تافهًا. لذا ترى أن من الأجدر دراسة وتفكيك ومحاسبة "النظام - السلطة" الذي خلق أو سمح بظهور مخلوقات مثل آيخمان.

إنني لا أعني القتلة فقط بجملة "مخلوقات مثل آيخمان" بل كل إنسان أو حتى عادات تكون أداة ضمن منظومة الحكم الشمولية، بما فيها الفن.

هناك جملة لكونديرا في حواره مع فيليب روث يقول فيها "من السهل أن نُدين معسكرات الاعتقال، لكن أن نرفض الشعر الشمولي الذي يؤدي إلى معسكرات الاعتقال بسلوك درب الفردوس فهذا صعب جدًا". وهذه الجملة تعني أنه يركّز كل اهتمامه على الأدوات "الشعر الشمولي" أو "الشعر في طريق الفردوس" ويُدير وجهه عن السبب الحقيقي لمسخ إنسان القرن العشرين وهو السلطة الشمولية وظلالها على المجتمع. وهذا هو فرق بين نظرته وبين نظرة آرنت.

 مشكلة كونديرا تتمثل في أنّه لا يريد أن يكون سياسيًا ولا يريد أن يُتّخد من أدبه أي موقف سياسي، وفي الوقت نفسه يبني رواياته على أساس أرضية تفوح بالسياسة

لا يتوقف تتفيه كونديرا أو تمويهه أو ربما تهرّبه من الإجابة على الأسئلة التي تتهم الشيوعية بالشر، ففي حواره مع فيليب روث أيضًا، سُئل فيما اذا كان يعتقد أن الحياة الحميمية أو الخاصة أقل عرضة للتهديد في الغرب منها تحت الحكم الشيوعي، كان جواب كونديرا محتالًا جدًا "إن تطور العالم الحديث معادٍ للحياة الحميمية في كل مكان، بالتاكيد هناك ميزة في البلدان الشيوعية حيث نرى بوضوح ما هو سيء وما هو جيد، فإن سجلت الشرطة محادثاتك الخاصة على شريط يتفق الجميع على أنه أمر سيء، لكن في إيطاليا عندما يتربص مصور ما لالتقاط صورة لوجه والدة طفل مقتول، أو معاناة رجل يغرق، لا نُسمي هذا خرقًا للخصوصية، بل حرية صحافة". 

اقرأ/ي أيضًا: حفلة التفاهة

إن هذه المقارنة بين شرطة الشيوعية وصحفيي أوروبا ما هي إلا مقارنة في قمّة السذاجة، ببساطة لأن مراقبة السلطة الشمولية لك، وتسجيلها لمكالماتك تعني أنك قد تتعفّن في أحد السجون، بينما مطاردة المصورين والصحفيين من الممكن مقاضاتها قانونًا تحت بند انتهاك الخصوصية.

إن مشكلة كونديرا تتمثل في أنّه لا يريد أن يكون سياسيًا ولا يريد أن يُتّخد من أدبه أي موقف سياسي، وفي الوقت نفسه يبني ويؤسس رواياته على أساس أرضية تفوح بالسياسة. إن موقفه من السياسة يتزحلق كسمكة حيّة من الصعب مسكها باليد.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الأفكار الشريرة داخل رأسك

إلياس خوري: مهمة الأدب أن يغيّر الأدب