10-أبريل-2018

جنى داعش الملايين يوميًا بجمع الضرائب من المواطنين تحت سلطته الإدارية (أسوشيتد برس)

يبدو أن تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، كان جادًا بشأن حلم "دولة الخلافة"، فبعد أن استطاع بسط النفوذ المحكم على مساحة شاسعة من الأراضي بتعدادٍ سكاني وصل لـ12 مليون نسمة، لم يكتفِ بالسيطرة بقوة السلاح، وإنما بدأ في تأسيس نظام حُكم بيروقراطي، بدا في عديد جوانبه، أكثر كفاءة من إدارة الحكومة العراقية مثلًا، كما يكشف شهود عيان وعشرات الآلاف من الوثائق الخاصة بالتنظيم، التي حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز من الموصل بعد خروج التنظيم منها، وأعدت بالبحث فيها تحقيقًا مطولًا، نشرنا ترجمة لنتائج الجزء الأول والثاني منه، وها هنا الجزء الثالث والأخير.


ماكينة المال

على الضفة الغربية لنهر دجلة، في مبنى محطم، وجد صحفيو نيويورك تايمز، حقيبة متروكة، تحتوي وثائق تعود ملكيتها لشخص يدعى ياسر عيسى حسن، والذي تكشف الوثائق عن أنه كان مديرًا لقسم التجارة في وزارة/ديوان الزراعة في ظل حكم داعش.

تكشف الوثائق الخاصة بداعش في الموصل، عن أن التنظيم استطاع جمع أكثر من 19 مليون دولار عن طريق المعاملات المتعلقة بالزراعة فقط

كانت طموحات داعش الضخمة وبيروقراطيته القوية، تعتمد على قدرته على توليد الأموال. وكشفت الحقيبة من خلال ما احتوت عليه من الاستمارات المحاسبية، واستقراءات الميزانية والإيصالات، بالإضافة إلى قرصين مدمجين يحتويان على جداول بيانات؛ مدى سعة ماكينة إيرادات داعش وقدمت مسودة توضح طريقة تشغيلها. وقد أظهرت التقارير المالية، أنه عن طريق المعاملات المتعلقة بالزراعة وحدها، جمع التنظيم ما يفوق 19 مليون دولار.

اقرأ/ي أيضًا: كيف أدار داعش "دولة" سكانها 12 مليون نسمة؟.. وثائق الموصل تكشف "الخلافة" (3-1)

وتصف الوثائق كيف تم كسب الأموال في كل حلقة من حلقات سلسلة التوريد، فقبل زرع بذرة واحدة من الحبوب، على سبيل المثال، يستلم التنظيم الإيجار للحقول التي صودرت، ثم عندما تكون المحاصيل جاهزة للحصاد، تُجمع ضريبة حصاد.

ولم يتوقف الأمر عن هذا الحد فحسب، إذ تدفع الشاحنات التي تنقل الحبوب رسوم الطرق السريعة، وتُخزن الحبوب في الصوامع التي يسيطر عليها المسلحون. وكانوا يجنون الأموال أيضًا أثناء عملية بيع الحبوب إلى المطاحن، التي كانوا يسيطرون عليها هي أيضًا، ثم تقوم المطاحن بتحويل الحبوب إلى دقيق، قبل أن يبيعه التنظيم للتجار.

ثم تُحمل أكياس الطحين على شاحنات، تجتاز أراضي "دولة الخلافة"، لتدفع المزيد من الرسوم، قبل أن تباع إلى المحال والمتاجر، التي تدفع بدورها ضرائب، والشيء نفسه بالنسبة للمستهلكين الذين يشترون المنتج النهائي.

وفي فترة 24 ساعة فقط من عام 2015، تكشف وثيقة واحدة من جداول البيانات التي عثر عليها في الحقيبة، أن داعش جمع 1.9 مليون دولار من بيع الشعير والقمح. بينما تظهر وثيقة أخرى، من جملة تلك السجلات البيانية، أن التنظيم كسب أكثر من ثلاثة ملايين دولار في ثلاثة أشهر من مبيعات الدقيق الإجمالية، في ثلاثة مواقع فقط بالموصل.

كان داعش عازمًا على جمع المال بأي طريقة، وإن من المحاصيل المتضررة، فوفقًا لوثيقة أخرى، جمع التنظيم 14 ألف دولار من شحنة قمح، وُصفت بأنها أُتلفت بعد تعرضها لقصف جوي، و2300 دولار من بيع العدس والحمص الفاسد، وجنى أيضًا ما يزيد على 23 ألف دولار من الحبوب التي كُشطت من قاع خزان.

وقد طال ذراع داعش لجمع الضرائب، كافة جوانب الحياة في الموصل،  حيث فرضت ضريبة قدرها ألفي دينار شهريًا (أقل من دولارين) لجمع القمامة، وحوالي ثماني دولارات لكل 10 أمبير من الكهرباء، ومثلهم لمياه البلدية.

ودفعت الشركات الراغبة في تركيب خط أرضي، رسوم تركيب تصل إلى 15000 دينار/حوالي 12 دولار، تُسلم إلى مكتب اتصالات التنظيم، تليها رسوم صيانة شهرية بقيمة خمسة آلاف دينار/حوالي أربع دولارات. كما فرضت مكاتب البلدية رسومًا على تراخيص الزواج وإصدار شهادات الميلاد. يُضاف إلى ذلك جمع الزكاة التي مثلت مصدر الربح الأكبر للتنظيم من بين مجمل الضرائب التي جباها.

حصّل داعش رسومًا على إصدار شهادات الميلاد
حصّل داعش رسومًا على إصدار شهادات الميلاد

هذا وقد تركز معظم التقارير الواردة حول كيف أصبح داعش أغنى تنظيمًا إرهابيًا في العالم، على مبيعاته من النفط في السوق السوداء، والتي جلبت في وقت من الأوقات، ما يصل إلى مليوني دولار في الأسبوع، وفقًا لبعض التقديرات. ومع ذلك، فإن السجلات والوثائق التي عثر عليها أيمن جواد التميمي في سوريا، تبين أن نسبة الأموال التي جمعه التنظيم من الضرائب، بلغت ستة أضعاف ما جناه التنظيم من بيع النفط! 

وعلى الرغم من مئات الضربات الجوية التي اخترقت سماء دولة الخلافة المزعومة، استمر اقتصاد داعش في العمل، تُغذيه مصادر إيرادات لا يمكن قصفها بموجب المعايير الدولية، والتي تمثلت في المدنيين الخاضعين لحكم التنظيم، ونشاطهم التجاري، بل التراب تحت أقدامهم.

ووفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، فإن الأرض التي استولى عليها داعش، كانت الأكثر خصوبة في العراق. وفي أزهى فترات التنظيم، شكلت الحقول التي تم حصادها 40% من إنتاج القمح السنوي في البلاد، وأكثر من النصف من محصول الشعير. ففي سوريا، سيطر داعش في مرحلة ما، على 80% من محصول القطن في البلاد، وفقًا لدراسة أجراها مركز تحليل الإرهاب في باريس.

ووفقًا للدراسة، فإن كل هذه المحاصيل تضيف مبالغ هائلة تصل إلى 800 مليون دولار من عائدات الضرائب السنوية. ومع ذلك، فإن طموح داعش في إدارة "الدولة"، يعني أن عليه تحمل نفقات كبيرة.

على عكس المتوقع، مثلت إيرادات داعش من الضرائب ستة أضعاف إيراداته من بيع النفط في السوق السوداء

وفي يوم واحد في صيف عام 2016، سلم مالك الحقيبة أكثر من 150 ألف دولار إلى أحد محاسبي داعش لدفع تكاليف نقل القمح من بلدة إلى أخرى، وفقًا لإحدى التقارير المالية.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تواطأت داعش مع الأسد لجني 40 مليون دولار شهريًا

وخلال فترة أسبوعين في نفس العام، دفع أكثر من 16 ألف دولار إلى وزارة/ديوان التجارة التابع للتنظيم في منطقة دجلة، و14 ألف دولار في كركوك، وقد مبلغ 8400 دولار أمريكي سُلفة نقدية لمكتب داعش في منطقة الحويجة، و16 ألفًا و800 دولار لدائرة الأراضي و8400 دولار إلى محافظة "الدولة الإسلامية" الواقعة على جانبي نهر الفرات.

واستمر تحصيل الضرائب حتى النهاية. كان يوجد ما لا يقل عن 100 وثيقة تحمل عنوان "إجمالي الإيراد اليومي"، والتي تبين النقود الواردة بتاريخ تشرين الثاني/نوفمبر 2016، بعد شهر من بدء حملة التحالف الدولي للقضاء على داعش في الموصل.

وحتى بعد دخول الدبابات وسيطرتها على الأحياء المجاورة، استمر ديوان التجارة في جني الأموال، حيث حصل على 70 ألف دولار في صفقة بيع واحدة.

ما بعد داعش

في أحد الأيام في أواخر عام 2016، سقطت نشرة إعلانية عليها العلم العراقي، على منزل عائلة محمد ناصر حمود. يتذكر حمود، المسؤول في وزارة الزراعة، حينما كان يقبع هو وعائلته في غرفة المعيشة ملتصقين كتفًا بكتف على الأريكة، حيث كانوا معزولين عن العالم، لأن التنظيم حظر حينها الهواتف الخلوية وأطباق القمر الصناعي.

وكانت النشرة الإعلانية واحدة من بين ملايين النشرات التي سقطت على الموصل، لحث السكان على الاختباء، فلقد كان الهجوم العسكري على وشك البدء. حينها تساءل حمود: "خل سيحدث ذلك حقًا؟".

أما مسلحو داعش الذين قوبلت خططهم لبناء "دولة" بخسرية، فقد أثبتوا كفاءة قتالية مثيرة للاهتمام، إذ استغرق طردهم من الموصل تسعة أشهر. كان جهدًا كبيرًا لدرجة دفعت جنرالاً أمريكيًا بارزًا إلى القول بأنها أصعب معركة شهدها منذ 35 عامًا.

ومنذ ذلك الحين، فقد مسلحو داعش جميع الأراضي التي استولوا عليها في العراق وسوريا ما عدا 3% منها فقط كانوا يملكونها سابقًا. لكنهم تشبثوا بدولتهم بشدة، إلى درجة أدت إلى هدم حي تلو الآخر خلال المعارك لاسترداد المدن والبلدات، ففقد الآلاف منازلهم. ويتم اكتشاف مقابر جماعية جديدة كل شهر، تحتوي إحداها على رفات أربعة من أبناء عمومة حمود.

ورغم طرد داعش، لكن لا تزال هنكا آثار تذكر بالتنظيم وطريقته الخاصة في الحكم.  على سبيل المثال، يتذكر سكان بلدة تل كيف الشمالية، كيف قام داعش بتجنيد لجنة من المهندسين الكهربائيين لإصلاح أعطال الأحمال الزائدة في شبكة الكهرباء. وقام المهندسون بتركيب قواطع دوائر كهربائية جديدة. وللمرة الأولى، تمكن السكان من استخدام الكهرباء بشكل موثوق على مدار اليوم، بعد أن كانوا يستخدمونها ما لا يزيد عن ست ساعات فقط يوميًا.

استلزم طرد داعش من الموصل 9 أشهر والكثير من الدمار (نيويورك تايمز)
تطلب طرد داعش من الموصل 9 أشهر والكثير من الدمار (نيويورك تايمز)

وفي بداية عام 2017، استعاد الجنود العراقيون البلدة. لكنهم قاموا بعد ذلك بفصل قواطع الدوائر الكهربائية التي قام تنظيم الدولة الإسلامية بتركيبها، وعاد انقطاع الكهرباء. يقول يونس، وهو سائق شاحنة: "لو عادت الحكومة العراقية إلى النظام الذي وضعه داعش، لقبلنا رؤوسهم". 

تمنى مواطنو الموصل لو أن الحكومة العراقية عملت على النظام الإداري الخدمي الذي وضعه داعش بعد طرده، فلقد كان أكثر كفاءة!

ولم يفت المواطنين ملاحظة المفارقة الكامنة في أن الأمر تطلب سيطرة جماعة إرهابية على البلدة لإصلاح أحد مظالم المدينة التي دامت طويلاً. إذ قال أحمد رمزي سليم في هذا الصدد، وهو مالك أحد المتاجر: "على الرغم من عدم الاعتراف بداعش كدولة، إلا أنهم تصرفوا على هذا الأساس".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف أدار داعش "دولة" سكانها 12 مليون نسمة؟.. وثائق الموصل تكشف "الخلافة" (3-1)

كيف تموّل داعش؟