03-مارس-2020

الطرف الولائي يتهم شباب الاحتجاج بالعمالة لأمريكا عن طريق استخدام تهمة "الجوكرية" ()

تلعب الأحداث السياسية والاجتماعية، دورًا بارزًا في خلق وإحياء، وتجديد الدلالات اللغوية، كما أنها تساهم في إضفاء معانٍ جديدة في معجم المصطلحات والمفردات الاجتماعية "فاللغة حدث اجتماعي، وأن القوة الاجتماعية تعمل على تماسك النسق، اللغوي، بقوة شديدة إلى درجة لا يستطيع الفرد فيها تغيير اللغة، ولكن يرد التغيير في الكلمات، بحيث إذا قبلت الجماعة الاجتماعية في نهاية المطاف بالتغيير؛ فإن النسق ينتقل إلى حالة جديدة أي لغة جديدة"، كما يقول عالم اللغة دي سويسر، فيما يؤكد أيضًا علماء التفاعلية الرمزية إلى أن "عملية خلق المفاهيم، وإضفاء المعنى عليها، والقدرة على تأويلها، هي عملية يستمر من خلالها المجتمع بالتفاعل والتواصل"، وبناءً على ذلك، فإن الكثير من المفاهيم أُعيد احياؤها تداوليًا لأسباب اجتماعية أو سياسية كما مات الكثير من المفاهيم لذات الأسباب.

تستخدم مفردة "ذيل" في العراق على من يكون الولاء عندهم عابرًا للحدود، كما تطلق على حلفاء إيران

فمثلًا تعد مفردة "ذيل" وهي نفسها التي تعني (ذَّنّبُ) الحيوان، ولكن في نفس الوقت أصبحت تستخدم دلاليًا بمعنى المواطن الذي يكون ولاءه عابرًا للحدود، أو يعمل على خيانة وطنه بجعله ساحة حرب وتصفية مصالح بين الدول التي لديها مصالح سياسية واقتصادية بداخله، وهكذا أعيد إحياء مفردة "ذيل" حتى صارت من أبرز المفاهيم التي أخذت بالانتشار في عراق ما بعد 2003، حتى أخذ فُمْ دلالتها يتوسع ليبتلع أكثر عددًا من المصاديق، فقبلًا كانت تطلق على شخصٍ يكون الولاء عنده للنظام الإيراني، أو غيره، لكنها اليوم توسعت لتشمل الأشخاص الذين لهم ماضٍ مع النظام الإيراني، حتى وإن كان واقعهم غير ذلك أو أنهم تخلوا عن ولاءاتهم السابقة.

اقرأ/ي أيضًا: من البعث الى "الجوكر".. 7 "أكاذيب" روجها الإعلام "الولائي" عن الاحتجاجات

ومن خلال قراءتي، فإن أول من وظف مفردة ذيل في كتاباته بدلالة (العمالة والخيانة للوطن والأُمَّة) هو الشاعر العراقي مظفر النواب، في قصيدته وتريات ليلة (القدس عروس عروبتكم) إذ جاء فيها: "مولانا.. يزعم أن شيوخ أبي ظبي، والبحرين، ورأس الخيمة، يخفون ذيولًا أرفع من ذيل الفأر، وحين يخرون سجودًا للشاه تبينُ قليلًا من تحت عباءتهم". 

مفردة "ذيل" وجمهور التيار الصدري

بعد الانشقاقات التي حصلت داخل التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، سنة 2011، حيث أعلن بعض القادة انشقاقهم الرسمي، وقدموا ولاءهم للمرشد علي الخامنئي من دون مواربة، انبعثت مفردة "ذيل" من جديد، لتطلق على كل شخصٍ لديه ارتباط أو ولاء للنظام الإيراني، وبمرور الأيام، توسعت عربة المفردة لتشمل كل شخصٍ له ماضٍ مع إيران كما أسلفنا، فصار الجمهور يبحث عن تاريخ عائلة الشخص المشكوك بأمره، فإذا كان أحد أفرادها له علاقة بالنظام الإيراني، فإنه يوضع في العربة الذيلية التي تجره إلى دلالة خيانة الوطن والتآمر عليه، وهنا غفل جمهور التيار الصدري عن أمر هام جدًا، وهو أن رموز العائلة كمحمد باقر الصدر وصادق الصدر كانت لهم مواقف  واضحة من النظام الإيراني، ولعل أشهر ما يثبت ذلك، كلمة السيد محمد باقر الصدر المشهورة "لو أنّ السيّد الخمينيّ أمرني أن أسكن في قرية من قرى إيران أخدم فيها الإسلام، لما تردّدت في ذلك"، أما صادق الصدر فقد كتب الشعر في مديح المرشد علي خامنئي خلال زيارته لإيران، فقد جاء في ديوانه أشعار الحياة والذي كتب مقدمته ابنه مقتدى الصدر، قصيدة بعنوان (صلاة الجمعة) يقول فيها الصدر:

وعندما انتهى من الخطاب .. جاء إلينا من ليوث الغاب

خامنئي إمام كل البشر .. وصاعد بصيته المنتشر

هناك شاهدناه بالعيان .. أول مرة لدى إيران

أشعار الحياة/ ص 294، مؤسسة المنتظر لإحياء تراث آل الصدر.

وعند انطلاق احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر التي ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا، فإن مفردة "ذيل" خرجت من الأسوار الصدرية لتصبح مفردة شائعة يستخدمها عامة الشعب بحق الذين تكون ولاءاتهم عابرة للحدود، أو بحق هؤلاء الذين تهمهم كل قضايا الكون، إلا قضايا وطنهم ومحنته، ومما يزيد هذه المفردة رسوخًا وقوة، هو توظيفها في الأغاني العراقية الداعمة للاحتجاجات مثل أغنية "ذيل أعوج"، والتي هي من إنتاج فريق البرنامج الساخر "البشير شو"، وأغنية الراب "ذيل إيران" الشائعة في اليوتيوب وغيرهن الكثر، واستخدمت هذه المفردة مؤخرًا من قبل ممثل المرجعية الدينية في النجف أثناء قراءته لخطبة الجمعة حيث قال "بعض الناس لا يمكن أن يكون إلا ذيلًا... أسيادهم ماذا يقولون، هم معهم، آمنوا، آمنوا كفروا، كفروا، أُقتل، أُقتل، أترك، أترك، هو حر، لكن عندما خنع وخضع وأذل نفسه، أصبح ذنبًا".

الجوكر كمعادل موضوعي لمفردة "ذيل"

في المقابل، فإن قادة الميليشيات وجماهيرهم استخدموا مفهوم الجوكر، نسبة الى الفيلم الأمريكي المشهور joker  ووظفوه اجتماعيًا كمعادل موضوعي لمفهوم الـ"ذيل"، فصارت هذه التهمة لعقة على ألسنتهم ويكررونها في لقاءاتهم وإعلامهم وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي يشرفون عليها، وهذا يدل على عجزهم في إطلاق تهمة عقلانية على المتظاهرين، فبعد أن كانوا يتهمونهم فيما مضى  بـ"البعثية"، التهمة التي لم ترسخ كثيرًا، وأصبحت منتهية الصلاحية، فأغلب من في انتفاضة تشرين هم من الجيل الجديد، وهو جيل لم يعاصر حزب البعث ويتشرب أفكاره أو يخدم في مؤسساته، فضلًا عن ذلك، فإن التظاهرات، تكمن قوتها في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، فصاروا في حرج من هذه التهمة التي توازي تهمة الغوغاء التي كان يطلقها النظام السابق على كل بادرة احتجاجية.

وفي اعتقادي، أن ما هيأ الأرضية لهذه التهمة، هو أحد المدونين المعروفين الذي كتب في حسابه منشورًا يعترض فيه على استخدام صور فيلم "الجوكر" في حسابات بعض الناشطين الداعمين للتظاهرات، وصنع زوبعة من الخلافات لم يهدأ عجاجها إلى يومنا هذا، في وقت كانت رؤوس الشباب تهشم برصاص القناص والقنابل المسيلة للدموع، وفي وقت كانت أعداد القتلى تتزايد بشكل مرعب. فهذا الاعتراض غير المبرر، صنع أرضية خصبة لتهمة ينتظرها قادة الميليشيات، عندها أصبحت تهمة "الجوكرية"، أو أبناء الجوكر الأمريكي جاهزة للنمو والتكاثر، وإن كانت من دون جذور، فما شجعهم على ذلك، هو هذا الاعتراض الساذج الذي لفت الأنظار إلى قضية طبيعية تحدث في كل الدول التي يثأر شبابها ضد الظلم والفساد، فمثلًا يعد بطل فيلم V for Vendetta الذي أنتج سنة 2006  أيقونة كل شباب العالم الثائر ضد السلطات، ولا يزال أغلب المحتجين يرتدون نسخًا من قناعه الذي يرتديه في الفيلم، ولكن لم نسمع أنهم تحولوا إلى متطرفين أو قتلة، أو مدعومين من جهة معينة لا تريد الخير لبلادهم لمجرد فعلهم ذلك.

الطرف الولائي يتهم شباب الاحتجاج بالعمالة لأمريكا عن طريق استخدام تهمة "الجوكرية" والطرف الآخر يتهمهم بـ"الذيول"

والأنكى من كل هذا، أن هذه التهمة تصدر من قادة لديهم تاريخ في النزاعات، وتاريخهم الإجرامي معروف لعامة الناس، فهم أربابٌ للتطرف واللصوصية والاغتصاب، فهم يقتلون وهم بكامل قواهم العقلية والنفسية خلافًا للجوكر الذي صنعت منه السلطة أداة قتل وإرادة أن يكون كما أرادوا له أن يكون بعد سلبه لإنسانيته، لكن رغم ذلك يستمرون بترديد هذه التهمة لعدم وجود تهمة عقلانية يطلقونها بحق متظاهرين أحرار لم يسرقوا ولم ينتهكوا الأعراض، ولم يغتصبوا، ولم يكن الولاء عندهم عابرًا للحدود، وعلى الرغم من وصول الضحايا إلى أكثر من 24 ألف بين قتيل وجريح، فإنهم لم يخرجوا من إطار السلمية ولم يلجأوا إلى استخدام العنف. وربما يعد إصرارهم على هذه التهمة نوع من أنواع الإسقاطات النفسية التي يقومون من خلالها بترحيل عيوبهم إلى الآخرين لخلق نوع من المقبولية في المجتمع الذي لفظهم ولم يعد يتقبل وجودهم، ويذكرنا إصرارهم هذا بالمثل الأجنبي الذي يقول "سأخبر الناس أن أختك عاهرة، ولتثبت لهم أنه ليس لديك أخت".  

اقرأ/ي أيضًا: ما الذي يخفيه وجه الجوكر في ثورات العالم؟

وما يزال التراشق بهذه المفردات قائمًا إلى يومنا هذا، فالطرف الولائي (نسبة إلى الولي الفقيه الإيراني) يتهم الشباب المحتج بالعمالة لأمريكا عن طريق استخدام تهمة "الجوكرية"، والطرف الآخر يتهمهم بـ"الذيول"، وخلال تظاهرات التي سميت بـ "جمعة الصمود" بتاريخ 10 كانون الثاني/يناير استخدم المتظاهرون في عموم العراق شعارات تندد بالمحور الأمريكي والإيراني على السواء، معلنين رفضهم الواضح بتحويل أرض العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات بين واشنطن وطهران، لكن رغم ذلك، فإن الطرف الآخر ما يزال متمسكًا ومقتنعًا باتهاماته التي يطلقها ليل نهار.

وبالعودة لمفردة "ذيل" التي ترعرعت في أحضان القاعدة الصدرية، فإن ما يثير الدهشة حقًا، أنها صارت تطلق حتى على زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في كل ساحات الاحتجاج، بعد مواقفه الأخيرة التي توحي بعودته تحت عباءة الولي الفقيه مثلما كان سابقًا قبل حدوث الانشقاقات داخل تياره.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

من "القنّاص" إلى مرشح الحكومة.. القصة الكاملة لتحركات إيران ضد احتجاجات العراق

الشائعات.. سلاحٌ هش للسلطة يؤازر "قنّاصها" وقنابلها الدخانية!