04-مايو-2019

600 دكة عشائرية في البصرة سنويًا ينتهي 100 منها بالقتال (Getty)

الترا عراق - فريق التحرير

لم يكن الحاج مالك البصري الطاعن بالسن يحمل همًا لسنوات شيخوخته بوجود ولده علي، حتى خطفته رصاصة طائشة على بعد خطوات من منزله مساء يوم في قضاء الهارثة، حين قررت عشيرتان حل خلافهما بالرصاص شأنهما شأن أغلب العشائر في البصرة، حيث السلاح الخفيف والمتوسط وحتى الثقيل، وسيلة معتادة لحل المشاكل مهما كانت تافهة.

تلجأ العشائر في البصرة غالبًا إلى حل المشاكل والخلافات بالقتال الذي يخلف مئات الضحايا سنويًا وسط عجز شبه تام عن ردعهم

لم يكن علي طرفًا في النزاع الذي أودى بحياته قبل عام من الآن، لكنه دفع ثمن غياب القانون وعجز الحكومة عن إيقاف "الاستهتار العشائري المسلح"، يقول أحد أقربائه في حديث لـ "ألترا عراق".

اقرأ/ي أيضًا: بعد الصواريخ والدبابات.. عشائر البصرة تستخدم "الدرونز" في نزاعاتها!

لا تختلف قصة علي عن المئات غيره، الذي يسقطون سنويًا ضحية النزاعات العشائرية في المحافظة، فضلًا عن شل عمل مؤسسات الدولة في كثير من الأحيان، حيث تتحول الشوارع والأحياء إلى جبهات مفتوحة يعربد فيها رصاص سلاح لا حصر له، قد يعادل ما تملكه فرق في الجيش.

"دكة".. "الفصل" أو القتال!

تسبق كل معركة بين عشيرتين، عدة مبادرات يقوم بها أطراف ذوو مكانة اجتماعية وعشائرية للتهدئة وإنهاء الخلاف بطريقة سلمية، يحسم القليل منها بالتراضي وغالبيتها بالأموال فيما يعرف بـ"الفصل"، وعند فشل محاولات الحلول السلمية تأخذ المشكلة مضاعفات عدة تبدأ بـ"الدكة" ولا تنتهي إلا بالقتال.

يقول صادق الشمري وهو مواطن يسكن قضاء الزبير، إن "الدكة العشائرية تقليد يمتد لقرون، يجتمع أفراد العشيرة بشيوخها وأبنائها مدججين بالسلاح عند بيت الشخص المطلوب بعد وجود خلاف أو شجار أو حادثة قتل في بعض الأحياء أو غيرها، ويطلقون النار أو يلقون قنابل يدوية، رغم وجود مدنيين فيه، كنوع من الإنذار الشديد لعشيرة الشخص المطلوب بضرورة الرضوخ لهم والجلوس للتفاوض (الفصل)".

تبدأ النزاعات العشائرية في كثير من الأحيان من خلافات بسيطة أو مشاكل "تافهة" لتتطور إلى حروب مفتوحة تستخدم فيها كافة الأسلحة

في حال عدم استجابة الطرف المستهدف تتفاقم الأمور، حيث تعاود العشيرة "صاحبة الحق" الهجوم، لكن عشيرة الشخص المطلوب تكون قد استعدت هي الأخرى للدفاع عنه، لتقع المعارك والمناوشات ويسقط الضحايا من الطرفين وآخرين أبرياء بالرصاص العشوائي أو الاستهداف الخاطئ، دون قدرة للقوات الأمنية على التدخل لفضه، فغالبًا ما تكون سلطة العشائر ونفوذها، أقوى بكثير من قوة الدولة والقانون، فضلًا عن أن أفراد الشرطة أنفسهم هم أفراد ينتمون لعشائر ويلتزمون بقوانين تلك العشائر غالبًا.

العشيرة تبتلع الشرطة!

فمع دخول الخلاف مراحله المسلحة، تتخذ الأجهزة الأمنية مواقف متعددة يتناقض بعضها مع دورها الأساس، ضبط الأمن.

يقول مصدر في شرطة البصرة، إن "الضباط وأفراد الشرطة المحلية لا يتدخلون في النزاعات بشكل مباشر، ذلك لكونهم من أهالي البصرة وينتمون بطبيعة الحال إلى ذات العشائر التي تتصارع بكثرة"، مبينًا أن "كثيرًا من عناصر الشرطة المحلية وعلى خلاف مهامهم المتمثلة بضبط الأمن، يسهلون مهة نقل السلاح وإعطاء المعلومات لأبناء عمومتهم الذين دخلوا بقتال مسلح مع عشيرة أخرى".

يضيف المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أن "مهمة إنهاء النزاعات المسلحة توكل إلى قيادة عمليات البصرة التي تمتلك لواء مغاوير مشاة تابع لفرقة المشاة الرابعة عشر في الجيش، فضلًا عن مدرعات الفرقة التاسعة"، لافتًا إلى أن "عناصر الجيش ولكونهم من خارج البصرة، ينجحون غالبًا بوقف النزاعات، ولكن ليس مع كل العشائر".

تعجز الشرطة في البصرة عن حل النزاعات العشائرية بل يساهم أفرادها في بعضها من خلال تأمين نقل السلاح أو حتى القتال فيما يقدم شيوخ أثرياء رشاوى للقيادات الأمنية لكسب ولائها

يبين المصدر أيضًا، أن "بعض شيوخ العشائر الذي يمتلكون الأموال ويتمتعون بالثراء الفاحش يغدقون بالهدايا على كبار الضباط كالسيارات رباعية الدفع وغيرها، لضمان عدم الوقوف بوجه حركتهم أو نزاعاتهم المسلحة، بعدم التدخل على الأقل أو حتى مساعدتهم فيها".

600 دكة سنويًا!

يشير المصدر، إلى أن "العشائر في المحافظة تمتلك ترسانة كبيرة  ومتنوعة من الأسلحة الخفيفية والمتوسطة والثقيلة، من بينها الأحاديات والراجمات والهاونات، وأسلحة الكلاشنكوف والـ BKC". لكن قائد شرطة البصرة الفريق رشيد فليح، كشف أكثر من ذلك حين أكد في تصريحات متلفزة، أن "كمية الأسلحة التي تمتلكها العشائر في أطراف مركز المدينة، قد يعادل ماتملكه فرقتين عسكريتين".

وتسجل محافظة البصرة سنويًا، نحو 600 دكة عشائرية، يتبعها 100 اشتباك مسلح، والتي تسفر بدورها عن أضرارٍ تطال 50 منزلٍ على الأقل، وسقوط 75 شخصًا بين قتيل وجريح، بحسب المصدر.

تسجل البصرة 600 دكة عشائرية سنويًا ينتهي 100 منها إلى قتال ونزاعات تخلف مئات القتلى والجرحى خاصة في المناطق الشمالية منها

لم ترد قيادة الشرطة في المحافظة، على اتصالات عدة من قبلنا لتأكيد تلك المعلومات والأرقام والتعليق على الملف، شأنها شأن مكتب شؤون العشائر التابع لقائد الشرطة الفريق رشيد فليح، الأمر الذي يدعم تصريحات مستشار محافظ البصرة لشؤون العشائر، محمد الزيداوي، الذي قال الخميس 25 نيسان/أبريل 2019، إن "السلطات المحلية تتعمد التعتيم على المعلومات الحقيقية". جاء ذلك عقب النزاع المسلح الأخير الذي شهدته المحافظة وخلف عددًا من القتلى والجرحى.

الشمال الملتهب!

دفعت الصدامات المسلحة شمالي البصرة، مئات العائلات للرحيل من مناطقهم باتجاه مركز المدينة الآمن نسبيًا، لكن مصير مئات الآلاف الذين بقوا ما زالت المخاطر تكتنفه.

يقول أحد شيوخ العشائر، إن "البصرة أخذت الحيز الأكبر في النزاعات العشائرية، لكن البصريين أنفسهم والحكومة المحلية وقيادة الشرطة يعرفون أن المشكلات العشائرية تتركز فقط شمالي المحافظة، حيث يغيب الحوار بشكل تام في أبسط الخلافات"، مبينًا أن "خلافًا على أحد مجاري الماء تطور قبل أشهر إلى نزاع مسلح، لم تنفع كل محاولات الوجهاء المعروفين لوقفه، قبل أن يخلف 6 قتلى من الطرفين".

اقرأ/ي أيضًا: فوضى انتشار السلاح.. ما الذي ينتظر أطفال العراق؟

يضيف الشيخ الذي فضل عدم ذكر أسمه تجنبًا للمخاطر، أن "أغلب وجهاء العشائر المعروفين على مستوى المحافظة باتوا يتجنبون التدخل لطلب (العطوة) التي من المفترض أن تؤدي إلى حل سلمي للخلافات، لأنهم باتوا يقعون في مشاكل ليس لهم فيها ناقة أو جمل، متمثلة بخرق شروط العطوة باستمرار، الأمر الذي يدفع العشيرة التي تعتقد أنها على حق إلى مطالبتهم بعدم التدخل مرة أخرى، وتذهب لتسوية الخلاف بطريقتها الخاصة".

تمتلك العشائر ترسانة ضخمة من الأسلحة والمعدات تعادل أسلحة فرقتين عسكريتين، فيما دخلت تقنية الطائرات المسيرة للمعارك العشائرية مؤخرًا

كانت منطقة الكرمة شمالي البصرة، قد شهدت، في وقت متأخر من ليل الأربعاء 24 نيسان/أبريل 2019، معركة ضروس، دارت رحاها بين عشيرتين، امتدت إلى الساعات الأولى من يوم الخميس، شهدت دخول تقنيات جديدة مثل الطائرات المسيرة، لتحديد الأهداف من الجو وضربها.

"داحس والغبرباء"!

يبين الشيخ، في حديثه لـ "ألترا عراق"، أن "نزاعات العشائر كانت ومازالت وستبقى، فهي سمة التجمعات العشائرية في العراق والمنطقة، حتى حينما كانت الدولة في أوج قوتها، لكنها كانت تقتصر على الأسلحة الخفيفة، أما اليوم فقد دخلت الأسلحة الثقيلة كالصاروخ ومدافع الهاون بقوة".

كما يشير، إلى أن "معارك القبائل لطالما كانت تستمر أيامًا وأسابيع طويلة، بين كر وفر ولا توقع هذا الحجم من الضحايا والخسائر بممتلكات كما بات يحدث خلال السنوات الأخيرة، وربما كانت وراء تلك المعارك العنيفة أسباب تافهة، لكن بحرية امتلاك السلاح وغياب دور الدولة والنزاع على مناطق النفوذ، يتطور السبب التافه إلى حرب داحس والغبراء، وهكذا الحال ما بين أغلب عشائر شمالي البصرة".

مؤامرة!

بدوره يقول أمين عام التجمع الوطني للعشائر العراقية، فايز السعد، إن "الانضباط الأمني وانفلاته يتبع إجراءت الدولة في تطبيق القانون"، مبينًا أن "النزاعات العشائرية لا تقتصر على البصرة بل جميع أنحاء البلاد، لكن البصرة تتعرض لتسليط إعلامي كبير يهدف إلى التأثير على العراق من خلال ضرب رئته الاقتصادية".

تستمر النزاعات العشائرية أسابيع وربما أشهر وسنوات تؤدي إلى النزوح وتستثمرها "مافيات" لبيع السلاح إلى أطراف النزاع 

يضيف السعد، في حديث لـ "ألترا عراق"، أن "البصرة تمثل قاعدة إنطلاق لإفشال الحكومة الوطنية، وهي مستهدفة أمنيًا واقتصاديًا، وإذا استقر وضعها، استقرت البلاد والعكس صحيح"، مؤكدًا أن "مافيات ترتبط بأجندات خارجية تفتعل النزاعات في المحافظة وتتاجر بالأسلحة، وعند اندلاع المواجهات تجد الآليات معدة لبيع الأسلحة لطرفي الصراع".

ما مصير قانون تجريم النزاعات؟

كان مجلس القضاء الأعلى، قد وجه خلال تشرين الثاني/نوفمبر 2018، بالتعامل مع قضايا ما يعرف بـ "الدكات العشائرية" وفق قانون مكافحة الاٍرهاب. وقال المجلس في بيان له، إن "جرائم التهديد عبر ما يعرف بـ(الدكات العشائرية) صورة من صور التهديد الإرهابي وفق أحكام المادة 2 من قانون مكافحة الاٍرهاب".

لكن بعد يومين فقط من أصدار القانون، شهدت ثلاث مناطق في مركز محافظة البصرة ثلاث "دكات عشائرية"، دون اعتقال أي من أطرافها وفق وكالات أنباء محلية.

تؤدي النزاعات في كثير من الأحيان، إلى شل عمل دوائر الدولة في البصرة، في وقت يؤازر الكثير من الموظفين أبناء عمومتهم في تلك النزاعات، فيما يضطر آخرون إلى ترك وظائفهم لأشهر ربما خوفًا على حياتهم حينما يكونوا مطلوبين أو مستهدفين على خلفية نزاع ما، وفق ما يؤكده المهندس ضرغام فارس، وهو موظف في إحدى دوائر الدولة.

لم ينجح قانون اعتبار الدكة العشائرية فعلًا ارهابيًا حيث استمرت النزاعات والهجمات التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى شل حركة المؤسسات والدوائر

من جانبه أكد مدير مديرية مرور البصرة، "توقف أكثر من 300 منتسب عن العمل بسبب النزاعات العشائرية"، مضيفًا في تصريحات صحفية، أن "أغلب المنتسبين من سكنة شمالي المحافظة". 

بالمقابل يؤكد يعرب المحمداوي وهو أحد شيوخ العشائر، أن "هناك تراجعًا في المشاكل بعد قانون تجريم الدكة العشائرية"، مبينًا أن "القرار جاء في وقته، والتزمت به أغلب العشائر الوطنية وأتى بنتائج مثمرة، فضلًا عن مساعدته للمصلحين في المجتمع.. أنا  شخصيًا من الداعمين له مع أغلب العشائر في البصرة".

يضيف الشيخ في حديث لـ "ألترا عراق"، أن "قضية منتسبي المرور الذي لايستطيعون الذهاب لعملهم صحيحة، وسبب عدم ذهابهم للدوام الحكومي كونهم من عشيرة واحدة ويخشون على حياتهم لأنهم مستهدفون من عشيرة أخرى". في صورة واضحة عن حجم المشكلة وضعف الجهات الأمنية المسؤولة عن تطبيق القانون في مواجهتها والحد منها، حيث لا توفر السلطات أو الحماية الكافية لها مقابل نفوذ رجال العشائر، وفق ما يؤكده فايز السعد، مبينًا أن "الدولة مطالبة بحماية منتسبيها عندما تطبيق القانون".

يدور نزاع عشائري وقت إعداد هذا التقرير بين عشيرتين في البصرة أدى إلى سقوط ضحايا وخسائر مادية مع عجز عن ردعه لكنه توقف مؤقتًا بهدنة لثلاثة أيام!

لا تبدو الأجواء مناسبة للتفاءل بانخفاض معدلات النزاعات العشائرية، التي تعد واحدة من أعقد الأزمات التي تواجه البصرة المحافظة الغنية بالنفط والفقيرة بالخدمات وفرص العمل ومقومات الحياة الكريمة لأبنائها، قريبًا، ليبقى الحاج مالك البصري وغيره المئات من ذوي ضحايا النزاعات رهائن للفقر والحرمان وغياب القانون.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيسبوك في العراق.. على قياس العشيرة وأزلام الحكم

فزاعة العشيرة العراقية.. سيف المحاصصة المشهر