27-فبراير-2023
المدن المزدحمة

عن العنف المتمدن (Getty)

تُبنى الاحتياجات البشرية الطبيعية على عناصر أساسية، لكن المجتمعات ـ على الأغلب ـ لا تعيش هذه الاحتياجات كما يجب أن تكون، بل تُجبر على العيش على نقيضاتها، أو كما يُصطلح عليه "قواعد فرض الموت"، وهي القواعد التي صيّرتها الطبيعة البشرية بتعاقب الأجيال إلى سلوك سوي واعتيادي يمارسه الفرد أو المجتمع وحتى السلطة، كأنه صيرورة طبيعية لحياة الإنسان، ما يجعل المفاهيم المقلوبة والملتوية هي المفاهيم السائدة التي سيجد الفرد نفسه معتنقًا إياها ومدافعًا عنها مقابل حقه في الحياة.

أحد أنواع مسببات العنف في المدن الكبيرة هو الزحامات والاكتظاظ السكاني

إنّ احتياجات الإنسان الرئيسية تبدأ بالمحطة الأساس، وهي البقاء، لكنها تجد نفسها أمام الزوال والفناء كنتيجة حتمية، وتتبعها حاجة الرفاه، إلا أنّ البؤس والشقاء يتغلب عليها بصورة كبيرة، وحاجة الهوية الوطنية أو "الهوية الموحّدة" تصطدم بقوة امام أيديولوجيا الهويات المتعددة والفرعية، الأمر الذي يقود إلى تهميشها وحصرها في زاوية السبّة والخيانة، أما الهويات التي تكتسب شرعية غير مشروعة حتى تصار الهوية الوطنية ومن يحملها إلى الشعور بالاغتراب الداخلي أو المنفى الرمزي، فضلًا عن حاجة الحرية التي تتشظى أمام القمع السلطوي والفكري، وخاصة في المجتمعات شرق الأوسطية التي تُهدر فيها الحرية وتُنحر على مقاصل القبلية والتطرف الديني والعقائدي.. ومن هذه الأنماط الثمانية المتصارعة، تنشأ روح العنف والتطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب، ولعل من أكثر المتناولين دقة لهذه المتلازمة البشرية هي الفيلسوفة "حنة أرندت" التي تركت تفسيرات العنف النفسية والاجتماعية وتأويلاته، أنما مَحورت الدلالات العنيفة حول التغذية والإذكاء المقصود وغير المباشر للعنف، وعلى رأس هذه الأسباب هي السلطة الحاكمة.

الدكتور يوهان غالتونج، الأب المؤسس لدراسات العنف والسلام، قسّم العنف العالمي إلى أنواع ثلاثة، بين محسوس مستشعر وآخر هلامي ورمزي، تتدرج فيه الخطورة من الأقل إلى الأكثر، أي الملازم للأفراد والمجتمعات، والذي يتحول إلى سمة جماهيرية يعتنقها الفرد العنيف أو المجتمع العنيف دون الشعور بها؛ يبدأ تقسيمه ـ يوهان غالتونج ـ للعنف بالدرجة الأساس على "العنف المباشر"، ويقصد بذلك العنف هو أي أذى جسدي أو إهانة مباشرة أو حرمان مُستشعر يعيشه الإنسان، وينعكس على سلوكيات الأفراد والمجتمعات، كنتيجة الحروب والصراعات والصدامات المسلحة والأعراف القبلية القاسية، والتعاليم الدينية التي تمتاز بالاضطهاد وإلغاء الآخر واستباحة حقوقه، والنوع الثاني من العنف هو (العنف غير المباشر أو العنف البنيوي) وهذا العنف الذي يُولد في المجتمعات، ثم يتحول إلى أعراف وسنن، وحتى إلى قوانين، ويتمظهر في الأديان والطوائف والقبائل، فضلًا عن مؤسسات الدولة، وعلى رأسها التعليم والأمن والقضاء، ويتحول بمرور الزمن إلى سياقات مجتمعية وسلوكيات لا يتمكن المواطن بفعل آثارها من التمييز ما بين هو صحيح وخاطئ، بل أن يربو وينشأ على العنف كسليقة وسجيّة طبيعية، ويعكسها في تصرفاته اليومية وطرق تعاملها مع نفسه وأسرته والمجتمع، ثم يصل غالتونج في تصنيفه إلى النوع أو البعد الثالث للعنف، ألا وهو (العنف الثقافي)، وهذا العنف باختصار الشرح، هو أيديولوجيا أو مفاهيم التبرير، وهذه المفاهيم يأتي دورها استكمالًا لتبرير نوعي العنف (العنف المباشر والعنف البنيوي غير المباشر)، وهذه هي النتيجية الأخطر التي تذهب إلى فكرة تبرير الحروب والصراعات والقرارات التعسفية القمعية باعتبارها حلولًا لا بد منها، أو حلولًا أساسية في الدرجة الأولى، الأمر الذي يقود السلطات والمجتمعات إلى التباهي بلبس أثواب العنف وشرعنة السلوك العنيف، وتسمية الإنسان العنيف بالإنسان القوي والصالح.

في العام 1958 تحديدًا، قام العالم "جون كريستيان" بدراسة عن الغزلان التي تعيش على جزيرة (جيمس) في خليج (تشيزابيك)، لاحظ كريستيان وقتها أن الغزلان تموت بأعداد كبيرة دون تعرضها للافتراس أو عوامل بيئية سامة.. مات من هذه الغزلان حوالي 200 غزال بأعراض مشابهة في سنة واحدة، وعند تشريح هذه الغزلان لغرض الوقوف على الأسباب والعوامل المؤدية إلى الموت، أظهر التشريح الدقيق والمتسلسل إلى تضخم الغدد الكظرية (غدة فوق الكلية) هذه الغدد المسؤولة عن إفراز هرمون الأدرينالين الذي يسبب حالة التحفيز لدى الكائنات، كانت جزيرة (جيمس) تبلغ مساحة نصف ميل مربع، وبالتقسيم الأحصائي لحركة الغزلان عليها، فإنّ نصيب كل غزال للحركة والنشاط على هذه الجزيرة، كان قرابة خمسة آلاف متر أو أقل منها، وبالقياس الأحيائي للغزلان، فأنها تحتاج إلى أربعة أضعاف هذا الرقم، فحين ازداد عدد الغزلان على الجزيرة، أصابتهم أعراض التوتر والضغط العصبي والشد النفسي الناجم عن الاكتظاظ نتيجية الزحام بينها.. أدى ذلك بصورة طبيعية إلى زيادة إفراز هرمون الأدرينالين بكميات كبيرة، فاضطربت هرموناتها وماتت تلقائيًا دون سبب خارجي، هذه العوامل ذاتها التي لو تم قياسها على الجنس البشري بحسب رأي عالم النفس (جون بي كالهون) ستقود حتمًا إلى اضطرابات نفسية بشرية تنتج سلوكًا عنيفًا تصارعيًا يقود ينتهي بالنزاع والاشتباك والصراع، بصورة بسيطة بدائية، ثم يتطور إلى العنف والصراع من أجل البقاء والهيمنة.

بناءً على ما تقدم؛ يطلق "كولن ولسن" نظرية "العنف المُتمدن" تحت يافطة "في المدن الكبرى تسقط القيم"، وأحد أنواع مسببات هذا العنف هو الزحامات في المدن واكتظاظها بالسكان، وعلى وجه الخصوص المدن التي تحمل مزيجًا غير متجانس من القبليات والثقافات المختلفة والمستويات والفوارق الاقتصادية المتفاوتة، والأديان المتشنجة.. هذه الظروف تُولد هاجس الخوف من الآخرين لدى الفرد وشعور الاغتراب الداخلي، واستحالة التعايش مع المختلف، ناهيك عن تمسكه بعاداته وتقاليده، معتقدًا إياها بأنها القيّم التي تحافظ على بقائه وكينونته. من هنا تولد فكرة الاندماج والانغماس في المشابهين له، والذوبان في الروابط السلوكية التي نشأعليها وترعرع.. بهذه الحالة تحديدًا، تولد الطائفة الناجية والجماعة الصالحة والعشيرة القوية الأصح من غيرها، التي تعتبر كل من لا يتماشى مع موروثها ويخالفها عدوًا لدودًا لها، مُولّدة استحالة التعايش مع المختلف وعلى الأقل تقديرًا قبوله والتسامح معه، وفي هذه المدن المكتظة، تتحول الحياة إلى سجن كبيرة لا تحده الجدران، يرسم فيه المواطن المنغمس في الجماعة تخيلات وهمية بأنه بين خيارين لا ثالث لهما (الضحية والجلاد) وليس من المقنع أن يكون في طبقة الضحايا، لذا فأنّ عليه ـ حسب اعتقاده ـ أن يكون جلادًا مع طبقة الجلادين (المُبررة) ليبقى على قيد البقاء ويحقق احتياجاته الأساسية في العيش، فالعنف إذًا بنظر الجماعة، هو سبيل للبقاء والوجود ويتماشى مع الشرع والعرف وحتى القانون.

وكلما تزداد المدن تخمة بالسكان، سواءً بالولادات أو الهجرة المتزايدة إليها لحاجة اقتصادية أو أمنية أو غيرها، تزداد منابع وصور العنف، ولعلّ من الأمثلة على ذلك العاصمة العراقية بغداد، وتليها مباشرة محافظة البصرة، التي أُتخمت بالهجرة العكسية (السلبية) كنتيجة حتمية للبطالة والفقر والتصحر وانخفاض مناسيب المياه، وقرارات تطويب الأراضي الزراعية، وتحويل جنسها إلى أراضٍ سكنية، ليواجه المجتمع بعضه بعضًا بالزحامات الشديدة المرهقة، وتضاؤل فرص العمل، نتيجة ازدياد الكثافة السكانية، وتداخل الثقافات غير المتجانسة فضلًا عن ضعف عوامل الضبط الحكومي والمجتمعي التي تتيح إبداء وإذكاء الفوضى للقوي وتشرعنها على حساب الآخرين، الأمر الذي يصبغ العنف بصبغة البقاء، والبقاء سمة البشرية واحتياجها الأول والأساس. فالعنف السلوكي بهذه الحالة عنف مبرر (عنف متمدن) على حساب كل أدوات الضبط والحقوق والتعايش.