21-أكتوبر-2021

فضل احتجاجات تشرين لا يزال حاضرًا (Getty)

بالإضافة إلى الهزيمة المدوية للأحزاب التقليدية ومنها على وجه التحديد الأجنحة السياسية لفصائل السلاح في الانتخابات المبكرة، كان عليهم تلقي هزيمة أخرى من نوع فتاك آخر يسمى السخرية، وهي السلاح الأشد تأثيرًا في تغيير الانطباعات والميول السياسية، وعلى ما يبدو بات السياق المقبول الأكثر تفاعلًا في التواصل الاجتماعي لتمرير الفكرة، ولم يكن للسخرية السياسية أن تكون بهذا التأثير إلا بعد انتفاضة تشرين قبل عامين، وهي الحالة التي تؤكد نبوءة أن ما بعد تشرين يختلف عما كان قبلها، بصرف النظر عن مدى تأثير البرامج المخصصة لذلك ومن بينها "البشير شو". 

لا نستطيع تخيّل صعود قوى جديدة وتراجع القوى التقليدية لو لم تكن احتجاجات تشرين موجودة

كل شيء بدأ من تشرين، المراجعة، التخبط، الخسارات المتوالية، هبوط مؤشر التقليدي وصعود المتغير الجديد، جميعها لم تكن لو لم يكن هناك شباب قرر كسر الخوف والبحث عن الوطن في تشرين، منذ هذه اللحظة بدأ الشباب العراقي رحلة التعبير عن نفسه، أهازيجه الشعبية ضد الحكومة والفساد والدخلاء بعبارات تهكمية وساخرة معبرة، فضلًا عن نشر العديد من الرسومات على الجسور والجدران والشوارع، ورفع لافتات تعبيرية ساخرة ضد ممارسة السلطة والتدخل الخارجي، بالإضافة إلى انتشار الأغاني الساخرة، التي أوصلت رسالة المحتجين من خلالها بعبارات مستنكرة وساخرة ومتهكمة على الوضع الحالي، لكنها تحمل في سخريتها الألم الواضح الموغل في نفوس العراقيين، وما زال الأسلوب الساخر التهكمي هو سلاحهم الأعزل بمواجهة القناص والكاتم والتحريض، السخرية التي تواجه السلطة وأسلحتها الفتاكة بمنشور أو "تغريدة" أو "كاريكاتير".

اقرأ/ي أيضًا: وفاء لتشرين.. كلمات لا بدّ منها

وبالنظر إلى الخارطة الرقمية لنتائج الانتخابات المعلنة حتى الآن من قبل المفوضية واعتراض الخاسرين الذي لم يقف عند تقديم الطعون والدلائل وحسب، بل تحول إلى التهديد العلني عبر ما يسمى بـ"الإطار التنسيقي"، وصولًا إلى النزول للشارع، الخطوة التي كانت بمثابة الفخ بحسب وصف متابعين ومدونيين لما تبقى للقوى السياسية الخاسرة، لأنها لم تكن مسنودة بما يدعم الفكرة من التظاهر أصلًا، كانت للكثير مادة دسمة في سوق التواصل الاجتماعي لتشريحها على المنصات، ما بين المقارنة بين تظاهرات تشرين 2019 التي قمعت بالقناص والقنابل التي هشمت جماجم الشباب الذي لم يكن يحمل سوى العلم العراقي باحثًا عن وطن ترجمه بشعاره المعروف "نريد وطن"، الشعار الذي يلخص ضياع الهوية الوطنية، وبين تظاهرات تشرين الحالي الذي يبحث جمهورها عن حق كما يسميه هو غير موجود أساسًا، حق ضاع بين طيات الفشل والفساد وقرقعة السلاح وبث الكراهية عبر التحريض على الناشطين وكل صوت معارض لهم. 

وبعيدًا عن جدلية الجدوى من المشاركة أو المقاطعة للانتخابات، ترفض القوى المهزومة وجهورها الاعتراف بالهزيمة، خصوصًا قوى السلاح باعتباره الأقوى في المعادلة ولا يمكن استثناؤه من اللعبة وصناعة القرار، وهو الأمر الذي جعله طبيعيًا أن يكون محط سخرية في عالم بات يتعامل بالأرقام الحسابية، بينما يختلف الأمر بالنسبة للأحزاب السياسية في العراق التي اعتادت على تقاسم السلطة والنفوذ بحسب التوافق، طبعًا الحديث هنا في إطار تكنولوجي بحت كأجهزة تصويت متطورة كان جميع الشركاء من الفائزين والخاسرين قد اتفقوا عليه، سواء كانت مفوضية أو قانون انتخابات أو مدونة سلوك انتخابي، الوثيقة التي وقع عليها الجميع لتقبل النتائج كيفما كانت لحفظ الإطار الديمقراطي، هل هناك ما هو أكثر سخرية من هذا؟! 

"السخرية هي الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط"، كلمات قالها الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي لوصف حالة الشعوب التي لا يملك بعضها سوى سلاح السخرية في مواجهة الأعباء السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن توالي الإحباطات والانتكاسات التي أصابتنا كعراقيين إلى جانب كسر حواجز الخوف ما بعد انتفاضة تشرين، كلّها أسباب ساعدت على انتشار النقد الساخر، لأننا بالنهاية لا نملك غير ذلك لمواساة خيباتنا الكبيرة، مواقع التواصل الاجتماعي أشعرتنا كأننا رؤساء تحرير في صفحاتنا الشخصية لكونها بعيدة نسبيًا عن سيطرة الحكومات وقوى السلاح، بالرغم من أنني قد أكون مبالغًا نوعًا ما حينما أقول بعيدة، لأنني قد أكون ذو حظ بعض الشيء أو لست جريئًا بما يكفي كما غيري، لكي يصدر قرار قتلي على منشور أو "تغريدة" تمس المحظور في قاموس جماعات السلاح، يبقى الأمر المتنفس الوحيد في العالم الافتراضي في ظل نظام هجين بالرغم من كونه لا يصنع تغييرًا، بل أن الشارع هو من يقلب الموازين في المقام الأول، لأن السخرية ليست أدبًا نخبويًا، بل هي حالة تعزز من كسر هالة السلطة، والساخر كما يقال "أشجع الجبناء وأجبن الشجعان". 

صار واضحًا مدى أهمية السخرية بفصولها المختلفة بعد موجة السخرية الأخيرة التي أجبرت الكثير من القوى الخاسرة "المسلحة" أن تتراجع في بعض قراراتها واندفاعها في التهديدات، وحتى انضمام أطراف لها كانت تقول إنها "قوى دولة وضد السلاح"، ثمّ انسحبت، لأسباب كان أولها وأهمها هو الرصد المباشر من قبل المدونيين والناشطين لكل ما يخالف القيم التي ينشدها الناس لأجل الدولة، وكذلك الإخفاقات الكثيرة ومنها قطع الشوارع وحرق الإطارات، فضلًا عن الاحتكاك عمدًا بقوى الأمن وتهديدهم بشكل علني، الأساليب التي كانت شماعة لضرب تظاهرات تشرين والتحريض عليها، عرفنا الآن لماذا كان هناك سعي محموم من قبل الأحزاب التقليدية لتشريع قانون يخص النشر ومواقع التواصل تحت مسمى ضبط إيقاعه، لأن السخرية والنقد كانا وسيبقيا السلاح السلمي الذي قلب معادلة المحاصصة المقيتة رأسًا على عقب، حتى قيل إن تشرين دخلت البرلمان وقوى السلاح في الشارع، دوارة دوارة يا دنيا دواره!

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تحديات نواب الاحتجاج: النموذج الأول والمهام الجسام

المقاطعون ومشاركة "تشرين" بالانتخابات