27-أغسطس-2016

مخيم للنازحين بكردستان العراق Photo by Noe Falk Nielsen/NurPhoto via Getty Images

من يقلّب في كتب تاريخ العراق المعاصر يكاد لا يجد في تاريخ سنة العراق ولا في وجدانهم السياسي صاعقة نزلت بهم كالتي هم فيها الآن. فقد اقتلع السنة من مجتمعاتهم، بريفهم ومدنهم، وهُدّمت حواضرهم، وهُدّم معها حُلم الحداثة، حُلم النخب والطبقات الوسطى، حتى الفلاحون والمزارعون فقد فقدوا علاقتهم المباشرة بالأرض.

المراقب المنصف للتجربة الكردستانية في العراق لا يمكنه أن يتغاضى عن العوامل المضطربة والبيئة الملتهبة التي تحيط بمنطقة الإقليم الكردي العراقي، والذي يتمتع بحكم ذاتي شبه مستقل عن بغداد تقريبًا

شكّلت محنة التهجير التي تعرض لها السنة في العراق هزيمة ساحقة لهم، حيث أخذت هذه الهزيمة آثارًا نفسيّةً وأبعادًا اجتماعيةً على جيلٍ كاملٍ. ولكن للأسف مازال البعض يصر بأن يبقى رهينة لهذه المحنة. فمما زاد في معاناة هذه المحنة أنهم لم يتوقفوا منذ سنتين ونصف تقريبًا من تبادل التهم فيما بينهم بالتسبب بهذه المحنة، لم يتوقفوا طوال هذه الفترة عن طرح الأسئلة غير الصحيحة بدل طرح التفسيرات المنطقية والتحليلات العقلانية، ولا نقول السعي في طرح الحلول لها.

وضعت محنة التهجير سنة العراق (الذين نزح معظمهم إلى إقليم كردستان) وجهًا لوجه أمام تجربة الكرد الناجحة نسيبًا. فالمراقب المنصف للتجربة الكردستانية في العراق لا يمكنه أن يتغاضى عن العوامل المضطربة والبيئة الملتهبة التي تحيط بمنطقة الإقليم الكردي العراقي، والذي يتمتع بحكم ذاتي شبه مستقل عن بغداد تقريبًا. فالكرد كان لهم سبق المواجهة مع السلطة طوال القرن الماضي، حيث عانوا أيضًا من محنة التهجير وقسوة النزوح، لكنهم استطاعوا تجاوز تلك المحنة، ولهذا هم اليوم الفاعل المحلي الأبرز في العملية السياسية في العراق.

اقرأ/ي أيضًا: تركيا تقتل طموح الأكراد

السؤال الذي يطرحه معظم السنة المهجرين في إقليم كردستان، هو كيف نصل إلى ما وصل إليه الكرد؟ كيف يمكن لنا أن نحقق ولو جزءًا بسيطًا من تلك الإنجازات التي يتململ ويتذمر منها المواطن الكردستاني، وهو يطالب ويطمح بالمزيد؟ كيف تمكنت النخب السياسية الكردية من حصد المكاسب السياسية والمنافع، من غير أن تصل بالمواطن الكردي لمواجهة مباشرة مع الحكومة الاتحادية في بغداد؟

تدرك النخب السياسية الكردية أن أساليب الهيمنة التي كانت تمارس ضدهم، كانت بسبب تسليمهم لمصادر قوتهم لهؤلاء الحكام. لكنهم بالمقابل يدركون أيضًا أن تجربتهم مع تلك الأنظمة الحاكمة باحتفاظهم بمصادر قوتهم، أطول فترة ممكنة برغم القمع، كان لها انعكاسات إيجابية لهم، وسلبية على أنظمة الحكم الدكتاتورية تلك.

واحدة من ثمار استراتيجية الاحتفاظ بمصادر القوة تتمثل في خلق بيئة غير مستقرة داخل مؤسسة الحكم، يتبعه ارتباك ثم ضعف في قوة تلك الأنظمة، ينجم عنه عجز أو شلل لدى النظام، بالتالي موت قوة الحاكم الدكتاتوري، وليس بالضرورة موت الحاكم نفسه. بدليل أنه لم يشارك الكرد بشكل جمعي عبر تاريخهم (السياسي والنضالي المعاصر) بأي محاولة انقلابية، ولم تكن لديهم نوايا معلنة لحكم العراق، أما كون منصب رئيس الجمهورية اليوم هو كردي، فهو منصب تشريفي في المقام الأول، إذ إن الدستور العراقي الحالي منح أغلب الصلاحيات لرئيس مجلس الوزراء.

وبهذا السياق وحول الجدل الدائر اليوم عن معركة تحرير الموصل من تحت سيطرة داعش، وحول الضغوط التي تمارسها الحكومة الاتحادية بشأن ملف إخضاع البيشمركة الكردية تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة، فهنا يمكن القول إنه مهما كانت حجم تلك الضغوط فلن يسلم الكرد إدارة أهم مصدر من مصادر قوتهم. فيما لا يعني هذا غياب للتنسيق أو عدم وجود للتعاون.

بعد هذا كله بات من المهم للعراقيين المقتنعين بهذه العملية السياسية أو المدافعين عنها، والذين سواء كانت لديهم مصادر قوة موجودة أو معدومة، بل من المهم لنا جميعًا هو إعادة النظر في قناعاتنا وأوهامنا، وأن نستحضر دائمًا مشاهد الصاعقة التي حلت بالعراقيين جميعًا، والمحنة التي يعيشها المهجرون والنازحون، من أجل تنبيه أولئك الساعين أو الداعمين لإثارة الأسئلة غير الصحيحة، الباحثين عن مصادر القوة لا لشيءٍ إلا لأجل استثمارها في حروبهم العبثية، بدلًا من البحث عن مصادر تجنب الجميع المواجهة، وتعمل كمانعة صواعق لجميع أنواع التوترات الحالية والمستقبلية.

اقرأ/ي أيضًا:
العراق.. طفل بزيّ ميسي يفشل بتفجير نفسه
العراق.. نمو سكاني يزيد أعداد الأرامل والأيتام