05-أغسطس-2020

كان بورخيس ضد سلطة اللغة (فيسبوك)

بلا شك، أن الاختلاف بين النص الأدبي أو اللغة وبين الواقع يتجسد بشكل ممتاز عند بورخيس بالذات في قصته القصيرة ملكان ومتاهتان. ومُلخص القصة، أن ملك بابيلونيا يصنع متاهة عظيمة تنتشر سيرتها في الأرجاء، لدرجة أن لا أحد يغامر بالدخول إليها. بعد زمن يستضيف ملك بابيلونيا ملكًا عربيًا، وفي محاولة للسخرية يطلب منه دخول المتاهة. يدخل الملك العربي ويضيع داخل المتاهة حتى المساء، لكنه بعد عون إلهي يخرج.

يفهم بورخيس العالم من خلال أن اللغة لا تعكس الواقع، والواقع ليس إلا ما نراه في الخيال أو الأحلام

يقرر الملك العربي رد اللعبة لملك بابيلونيا، يستضيفه ويأخذه بعد مسيرة ثلاث ليال نحو الصحراء ويقول له "لقد أردت لي ببابيلونيا أن أضيع في متاهة من نحاس كثيرة السلالم والأبواب والجدران، والآن يشاء القدير أن أعرض عليك متاهتي حيث لا سلالم تُصعد، ولا أبواب تغصب، ولا أروقة متعبة تُعبر ولا جدران تمنعك من السير".

اقرأ/ي أيضًا: بورخيس وفلسفة اللغة في "مكتبة بابل"

بديهيًا تُصنع للمتاهة نقطة بداية ومنفذ خروج، وبغير هذين الطريقين لن تكون هناك متاهة وسنكون أمام سجن لا أكثر.

في قصة بورخيس نحن ننجو مما نُفكر فيه ونصنعه "متاهة النحاس" ما دامت أداة التفكير هي بكل حال اللغة والمنطق. في المقابل سنكون أمام الواقع "متاهة الصحراء" تمامًا كملك بابيلونيا عاجزين عن إيجاد الطريق لسبب بسيط هو أن هذه المتاهة المفتوحة التي نجهل اتجاهاتها - بدايتها ونهايتها - لم نصممها بعقولنا نحن.

إنني أعتقد أن بورخيس يريد أن يقول إن اللغة هي متاهة النحاس. وأن الواقع هو متاهة الصحراء.

يؤكد بورخس في قصته التالية "حكاية الحالمين" عدم حقيقة الواقع، وترجيحه للخيال، وفي نص القصة نشاهد الرجل المصري الذي سافر نحو بلاد فارس بدافع من حلم أتاه في المنام يقول له "ثروتك في فارس بأصفهان، فاذهب وابحث عنها"، يسافر الرجل ويتعرض لمشقات السفر، يصل لأصفهان وينام في مكان يتعرض للسرقة. يتم اتهام الرجل المصري من قبل الشرطة بالسرقة، عندها يخبرهم أنه جاء بناءً على حلم حلمه، فيضحك قائد الشرطة ويقول له "أيها الرجل الأخرق سريع التصديق، لقد حلمت ثلاث مرات بدار في القاهرة، في قاعها حديقة، في الحديقة ساعة شمسية، ووراء الساعة الشمسية تينة، ووراء التينة عين ماء، وتحت عين الماء كنز"، يعود المصري لبيته فلم يكن وصف الضابط الأصفهاني إلا وصف بيته، يعود ليجد الكنز تحت عين الماء، تمامًا كما جاء في الحلم. هكذا يرى بورخيس أن الحقيقة ليست إلا الخيال. تتكرر هذه الحالة في قصص بورخيس حيث نجد مساحة جيدة للأحلام الدقيقة المتحققة.

لنتذكر الآن هذه النقطتين عن فهم بورخيس للعالم. اللغة لا تعكس الواقع، والواقع ليس إلا ما نراه في الخيال أو الأحلام.

في القصة التالية المسماة "كتاب الرمل" يكشف لنا بورخيس عن وجهة نظر أو فلسفة أخرى لا تقل قيمة عن القصتين السابقتين. تتحدث القصة عن بائع كتب يشتري كتابًا من بدوي، وفي الحقيقة هو لا يشتريه، وإنما يقايضه بنسخة قديمة من الإنجيل ليبيعه لبطل القصة. يتفاجئ البطل بأن الكتاب ليس مرقمًا بشكل ترتيبي، وأن كلماته وأرقام صفحاته تظهر وتختفي في كل مرّة يفتح فيها الكتاب بشكل لا يسمح بتكرار أي شيء.

سأتوقف هنا عند تفسير مثير للفيلسوف الرواقي شيشرون عن معنى القدر، يقول شيشرون إن القدر هو "السلسلة المنظمة من الأسباب، التي من سبب إلى آخر تُنتج أشياء أخرى. تلك السلسلة هي الحقيقة الدائمة والمستمرة منذ الأزل. وعلى هذا الأساس لا شيء قد حدث من دون أن يكون واجب الحدوث، وبالمثل، لا شيء سيحدث ما لم تكن قد حملت الطبيعة في كيانها أسبابه الفاعلة".

في مقابل نص شيشرون عن تغير مسيرة القدر بناء على أفعال سابقة، يكتب بورخيس في القصة نصًا مطابقًا لفكرة الفيلسوف الرواقي "وضعت يدي اليسرى على الغلاف وفتحت الكتاب محاولًا أن أضع أبهامي على الورقة البيضاء الأولى، لكنه كان جهدًا بغير طائل. في كل مرة حاولت كان عدد من الأوراق يفصل بين الغلاف وإبهامي، وبدا لو أن الأوراق تتناسل وتنمو من الكتاب".

يوحي لنا بورخيس أن فكرة القصة تقول بعدم وجود تكرار في الحياة ولا إعادة "لاحظت بأن الرسوم تبعد ألفي صفحة أحداهما عن الأخرى، فسجلتها في فهرس أبجدي لم أتأخر في ملأه، غير أن تلك الرسوم لم تتكرر قط". ما يؤكد الفكرة عن عدم وجود تكرار عند بورخيس هو النص الأخير من القصة "أعلم أنه إلى اليمين من الممر ينساب سلم على شكل حلزوني إلى أعماق سرداب تحفظ فيه الصحف والخرائط. اغتنمت فرصة عدم انتباه العاملين فأضعت، متعمدًا كتاب الرمل فوق أحد الرفوف الرطبة". لقد وّضع الكتاب في مكان ما بين الصحف والخرائط. وفي الحقيقة لا شيء أكثر تغيرًا وتبدلًا مثل الصحف والخرائط.

يوصف بورخيس أنه يتلاعب بالتكرار، لكن تفسيري للأمر أن لا تكرار في قصص بورخيس أبدًا. إن هذا ليس إلا سوء فهم

هناك ملاحظة اخرى بشأن هذه القصة الجميلة، فعملية المقايضة والبيع تمت بين الكتاب المقدس وكتاب الرمل. إن اختيار بورخيس للكتاب المقدس هو في غاية الذكاء، إنه يقارن بين كتاب صُنّف كحقيقة مطلقة غير قابلة للتغيير عند مليارات البشر، مقابل كتاب لا شيء ثابت فيه.

اقرأ/ي أيضًا: بورخيس في المتنبي

إن بورخيس يُضيف لفكرتيه السابقتين اللتين ذكرتها سابقًا "اللغة ليست الواقع، والواقع ليس إلا ما نراه في الخيال" يضيف شيئًا آخر وهو عدم وجود حقيقة ثابتة متمثلة بكتاب الرمل الذي سيكون مجاورًا في الرف للصحف والخرائط.

وبشكل عام يوصف بورخيس أنه يتلاعب بالتكرار، لكن تفسيري للأمر أن لا تكرار في قصص بورخيس أبدًا. إن هذا ليس إلا سوء فهم.

ففي نسخة "كتاب الرمل" ترجمة الدكتور سعيد الغانمي، يوجد نص في المقدمة أعتقد أن هناك حاجة لتوضيحه، فبعد أن ينقل الغانمي نصًا قصيرًا من قصة كتاب الرمل "إذا كان الزمن لا نهائيًا كنا عند أي نقطة في الزمان" يُعلق على هذا النص بأن "الابتداء من نقطة معينة يعني أن الزمان يتكرر، إنه الإعادة المتواصلة للنقاط نفسها". إن بورخيس أحد أكثر المعجبين بشخصية الفيلسوف هرقليطس صاحب المقولة الشهيرة "إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين". هناك عدة دلائل على هذا الأمر. مثلًا في قصيدة صنعة الشعر يقول بورخيس:

الفن لا نهائي مثل نهرٍ متدفق،

عابرٌ، ولكن باقٍ، مرآةٌ لهيراقليطس

المتقلب ذاته، الذي هو نفسه

وغيره في آن، مثل النهر المتدفق

نستطيع أن نعتبر الأبيات الشعرية السابقة دليلًا واضحًا على إيمان بورخيس بالتغيّر، حيث لا يتطابق التغير المستمر مع التكرار أو الإعادة أبدًا، وهل هناك من تكرار في النهر المتدفق!

على العموم، أستطيع أوضّح فكرة "عدم التكرار" عند بورخيس من خلال قصته الشهيرة "پيير مينار" مؤلف الكيخوتي، فبالرغم من إصرار مينار على إعادة كتابة فصول من رواية دون كيخوته بالتطابق نفسه، إلا أننا ننصدم بحدثين مهمين. الأول في تكراره حرفيًا لجملة "الحقيقة التي التاريخ أمها، منافس الزمن، ومدّخر الأفعال ومثال الحاضر وصنيعته، والمحذّر مما سيأتي"، كما كتبها سرڤانتس، إلا أن القارئ سيجد بورخيس برغم جعله پيير مينار يُعيد كتابة الجملة نفسها إلا أنه يضيف الآتي، أن "الفكرة مذهلة، ذلك لأن مينار معاصر لوليم جيمس لا يعرف التاريخ بكونه استقصاء للواقع.. والحقيقة التاريخية ليس ما حدث بل ما نقدّر أنه حدث".

نلاحظ في النص السابق، أنه برغم إعادة جملة سرڤانتس حرفيًا من قِبل مينار، إلا أن المعنى لمفهوم التاريخ بين سرڤانتس وبين ناسخ جملته مينار يختلف تمامًا. فما يعود مرة أخرى، ليس هو نفسه ما كان سابقًا. بشكل واضح يُفكر أدب بورخيس أن قيمة الأدب أو حرفة الأديب تتمثل بقدرته على إعادة قراءة ما مكتوب بطريقة جديدة.

أما الحدث الثاني الذي أستطيع فيه نفي التكرار المطابق عند بورخيس هو أنه جعل مينار - في القصة السابقة نفسها - يُمزق المخطوطات التي عمل عليها لإعادة انتاج دون كيخوته "هكذا خصص وساوسه لإعادة انتاج كتاب موجود سلفًا، وفي لغة أجنبية، وصحح بثبات ثم مزق آلاف الصفحات المخطوطة، ولم يسمح لأي كان بالإطلاع عليها وحرص على أن لا تبقى إرثًا من بعده، سدى حاولتُ إعادة تركيبها".

كان بورخيس ضد سلطة اللغة، ضد الزمان والمكان والتاريخ، كان مليئًا بالشك

ربما لم تكن صدفة اختيار بورخيس مع بيكيت لنيل جائزة مشتركة، فالاثنان ضد سلطة اللغة، ضد الزمان والمكان والتاريخ. مليئان بالشك. لكن الفارق أن بورخيس أكثر سخرية وأستطيع أن أقول إنه بلا شك أكثر متعة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

في مكتبة بورخيس

لم كان بورخيس يكره كرة القدم؟