15-يوليو-2019

السياق الثقافي الذي يصنع الطاغية بحاجة إلى مواجهة كبرى من النخب لتغييره (فيسبوك)

في تحليل الواقع العراقي كثيرًا ما نقع في فخ السطحية والتبسيط، ونادرًا ما يفلت أحدنا من السرديات المزيفة التي تتحكم في أنماط تفكيرنا. وبمرور الزمن تغدو هذه السرديات مادة التحليل المركزية في نظرتنا للواقع، وأقل ما تفعله هي أن تخلق لدينا عقبة معرفية تحيل بيننا وبين فهم الواقع ونقع أسارى الانسداد.

لا يمكن للمسخ الظهور إلى الوجود والتحكم في مجمل حياتنا السياسية والاجتماعية ويشكّل منظومة رعب هائلة مالم يغذيه صانعه، وهذا الأخير هو السياق الثقافي

 من هذه العقبات التي لا زالت ترافقنا، هو النظر للديكتاتور على أنه فرد أو نظام سياسي فحسب، ونصرف أنظارنا عن السياق الذي أنتج هذا الاستبداد.

اقرأ/ي أيضًا: كيف يحدث الطغيان؟ (1-2)

إن المسخ لا يمكنه الظهور إلى الوجود والتحكم في مجمل حياتنا السياسية والاجتماعية ويشكّل منظومة رعب هائلة مالم يغذيه صانعه، وهذا الأخير هو السياق الثقافي الذي تورط بصنعه وتغذيته.

  يمكننا أن نطرح السؤال التالي: من أين جاءت الأنظمة الدكتاتورية؛ هل انبثقت من رحم العدم!، واستولت فجأة على مقاليد الأمور وسط سياق ثقافي يعارض الدكتاتورية، أم الدكتاتورية نتيجة مخاض ثقافة ترسخّت في وجدانها المركزية الصارمة؟

 أليست بعض النصوص الدينية التي توضح كيفية شواء الكفار في جهنم تنمّي "الوجدان القمعي" في المجتمع كما يقول هادي العلوي؟ ألا نرى كيف تعمل علينا سلطة شيخ العشيرة ووصايته بكل تحدٍ، الأمر الذي يجعلنا من المغضوب عليهم فيما لو ذكرنا أحد العشائر بشيء من النقد لا سمح الله؟!. هل يمكن لأحدنا التفوه تجاه أحد القادة الدينيين من خلال نقد أدائهم السياسي أو أداء أتباعهم ما لم نجد أنفسنا في زمرة " الهاربين من وجه العدالة"؟.

معلوم أن غياب الدولة يساهم في تفجير بركان الهويات الفرعية، لكن ومن المعلوم أيضًا أن الدولة هي الانعكاس الجلي لهويتها الثقافية حتى لو كانت على نمط الدولة الغربية الحديثة، فنحن هنا نتكلم عن المضمون وليس الشكل الخارجي للدولة.

من هذه الناحية، ما الجديد والصادم لمجتمع تمت تنشئته على هذا الوجدان، الذي تلعب فيه وصاية الفقيه والقبيلة والمهمين الخارجي دورًا فعّالًا في تنصيب الدكتاتور؟  لكن على الرغم من قوة المهيمن الخارجي في دعم الدكتاتور، غير أن السياق الثقافي أو "الخطاب السائد"، بتعبير فوكو، هو من يحدد طبيعة المعرفة وينتجها. وبالتالي سنسهل الأمر كثيرًا على هذا المهيمن ليعزز فينا روح الطغيان.

على سبيل المثال: إن التشجيع على زواج القاصرات، وتضخيم سلطة الذكر، والاحتكام إلى العرف العشائري، والارتباط بالفقيه، ستولد هذه العناصر لاحقًا بنية متماسكة للدكتاتورية.

التشجيع على زواج القاصرات، وتضخيم سلطة الذكر، والاحتكام إلى العرف العشائري، والارتباط بالفقيه، ستولد لاحقًا بنية متماسكة للدكتاتورية

هذه" الإفادات" تجتمع وتتماسك فتولّد خطابًا يغذي روح الطغيان في كل مفاصل المجتمع، ثم ينساق هذا الأخير بالتشجيع والتصفيق والتشبه بروح الدكتاتور.

اقرأ/ي أيضًا: صالح وصدام والقذافي.. الدكتاتور العاقل يترك الحكم حيًا

في مقالته المهمة" ثقافة الجثث المعلقة"، والتي سأعتمد عليها في سرد الحقائق، يذكر هادي العلوي حقائق تاريخية مهمة للغاية، وأهميتها ليست بالسرد التاريخي، الذي يعلمه معظمنا، وإنما بدلالاته البالغة التي تبرز لنا الكيفية التي نصنع بها الدكتاتور. في 14 تموز 1958 حينما تم اقتحام قصر الملوك، سلّم عبد السلام عارف جثث من قتلهم من أركان النظام الملكي إلى الغوغاء، ويعترف هادي العلوي أنه كان من ضمنهم، فمثلوا بالجثث وعلقوها على الجدران والأعمدة وسحبوها في شوارع بغداد. ولم يستنكر أدباء ذلك الوقت هذا الفعل الشنيع، بل العكس، يقول العلوي، نظموا مظاهرة تنادي بقتل المزيد. وكان يقود المظاهرة الشاعران محمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم، الذي تخصص بعد ذلك بمدح صدام حسين.

وبعد انقلاب 17 تموز1968، يكمل العلوي، قام نظام البكر-صدام بحملات إعدام لمجموعة من المواطنين اتهمهم بالتجسس لصالح المخابرات الأمريكية. وبما أن هذا النظام خرج من رحم ثقافة تمجد ثقافة "الجثث المعلقة" فقد قام بتعليق جثث الضحايا في ميدان التحرير ووجهوا نداء للمواطنين ليخرجوا ويتفرجوا على جثث "الجواسيس". المفارقة الغريبة التي يذكرها هادي العلوي، هي أن الناس تجمهرت بما فيهم النساء والأطفال في ساحة التحرير وأخذوا يأكلون ويشربون تحت الجثث المعلقة فوقهم. ولم يستنكر هذا الحادث البشع أي مثقف عراقي حتى من المعارضين.

لقد خاض الانقلابيون في دماء العراقيين وأعراضهم فقتل الألوف تحت التعذيب واغتصاب مئات النساء وخرجت العشرات منهن وهن حوامل من السجن. ولا زالت المفارقة، حيث بورك هذا العمل من جميع القوميين العرب وهللت له الصحافة المصرية واللبنانية والسورية والخليجية. ولم يصدر في وقتها أي موقف من مثقف أو أديب، باستثناء الشيوعيين العرب الذين استنكروه لأنه وقع على أصحابهم، هذا ما دفعهم لاستنكاره وليس لأنه فعل همجي!.

ليس المراد من هذه المقاربة السريعة وضع المجتمع في قفص الاتهام، أو تناوله بلغة احتقارية ومتعالية، كما تفعل النخب، وإنما لتسليط الضوء وكشف الجذور والملابسات التي تحيط بهذا الموضوع الشائك، الذي يقع في دائرة اهتمام معظم جيلنا المعاصر التوّاق إلى الديمقراطية والحرية.

فارق كبير بين شتم المجتمع وبين لغة التحليل العلمي التي تحاول الوصول إلى جذر المشكلة والإجابة عليها قدر المستطاع، لذا أن مثل هذه الكتابات تسعى لترتيب الأولويات حينما تشرع بالإجابة عن أهم مشكلة شغلت الأقلام الديمقراطية في منطقتنا العربية. فمن باب الأمانة والموضوعية أن نفهم العناصر المكونة لثقافتنا التي تنجب الدكتاتور وتبارك له.

فارق كبير بين شتم المجتمع وبين لغة التحليل العلمي التي تحاول الوصول إلى جذر المشكلة والإجابة عليها قدر المستطاع

إن هذه الثقافة احتفلت بـ"المسخ" وباركت له وصفقت وتفرجت على ضحاياه وجرائمه، لكنها لم تفكر في يوم ما أن هذا المسخ سينقلب على صانعه، مثلما انقلب المسخ على صانعه فرنكشتاين.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

استدعاء الدكتاتور صدام حسين.. الحاجة إلى البطل!

صدام حسين.. الدكتاتور الذي يأبى الموت