27-مايو-2022
لطيف العاني

قرون من الوجع العراقي (لطيف العاني)

كان العراقيون طيلة عقود يمنّون النفس بأحلام التغيير. ولا يتوفر من تاريخهم السياسي ما يسر القلب سوى فترات متباعدة من الاستقرار لم تلبث أن تحولت إلى جحيم لا يطاق. ولو سألت أي عراقي عاصر جيل السبعينيات سيجيبك على الفور أن الفترة المذكورة تمثل العهد الذهبي لمختلف العراقيين. لم يكن كل العراقيين في هذه الفترة يمتلكون عقارات فارهة، وسيارات حديثة، ولم تكن بغداد تحفل بكل هذه المراكز التجارية الضخمة، والمطاعم ذات الخمسة نجوم. كما لم تكن التكنولوجيا بهذه السرعة الجنونية.

مائة عام من الدم والدموع في العراق لا تمثل فيها فترات الاستقرار سوى لحظة السبعينيات التي شكّلَت عصارة الحلم العراقي

كلما في الأمر كانت الحياة بسيطة لدرجة أن عموم الناس كانوا يتغنون بهويتهم الثقافية ويتفاخرون بها، وكل ذلك كان مسطورًا في أشعارهم الغنائية، وجلسات السمر البغدادية. ومن هنا نفهم سر التعلق بالأغنية السبعينية التي شكلّت الحجر الأساس أو الإشارة البارزة التي تعكس عوامل الاستقرار يوم ذاك. وما من عراقي عاصر تلك الفترة إلا وفي أعماقه خفي حنين إلى تلك الحقبة الذهبية. حتى الأجيال اللاحقة توارثت هذا الحنين وأصبح سردية العراقيين اليتيمة عن عصرهم الذهبي.

 لم يكن ثمة زهو قومي جامح يدفع الناس لشن الحروب، بقدر ما كان زهوًا يتغنى بحب الوطن بطريقة عفوية لا تشوبها النعرات القبلية. ولم يكن حبًا على طريقة الأناشيد الحربية، ولا "هوسات" تتحكم بها العصبيات القبلية، ولا مقولات طائفية تسمم الوجدان الشعبي وتقسم الشعب وتحيله إلى جزر متباعدة يتحكم بها قادة الطوائف.

كانت الطائفة، والقبيلة، حاضرتان لا بصفتهما مقولة سياسية، بل كانت الدولة ومؤسساتها، ونظامها البيروقراطي هما الحاكمان. لكن.. ولك أن تحكم عن تاريخ سياسي لا يمثل فيه الاستقرار سوى عقد من الزمن، ترى ماذا سيترتب عليه من أبعاد نفسية واجتماعية؟

 إن هذا العقد شكل فترة استراحة خاطفة وكان الحد الفاصل بين حقبتين سياستين تمثلان عصارة الألم العراقي: حقبة الملكية وما تلاها من أحداث سياسية مزلزلة، وحقبة حزب البعث التكريتي وما ترتب عليها من صنوف الخراب التي لا زلنا ندفع أثمانها حتى هذه اللحظة.

ولك أن تحكم أيضًا: عقد من الزمن يشكل عصر العراقيين الذهبي بالتمام والكمال! مائة عام من الدم والدموع لا تمثل فيها فترات الاستقرار سوى لحظة خاطفة من الزمن هي من شكّلَت عصارة الحلم العراقي. لقد صام العراقيون من الاستقرار دهرًا طويلًا ثم أفطروا على عشر سنين خاطفة لا يمكن إدراجها ضمن مكونات الذاكرة العراقية الصلبة ولا يترتب عليها أي أثر نفسي وسلوكي مقارنة بقرن من التدمير.

لا بل يمكن قلب المعادلة بشكل موّسع: يمكن اعتبار القرن السياسي العراقي، هو أيضًا، نقطة فاصلة في تاريخ الوجع العراقي الذي امتد لحظة سقوط الدولة العباسية وما تلاها من احتلالات مشينة كان آخرها الاحتلال العثماني الذي جثم على قلوب العراقيين أربعة قرون. بمعنى، يمكن اعتبار القرن المذكور هو الأخف وطئة مقارنة بالقرون العثمانية الأربعة.

ولك أن تقارن، مرة أخرى، مقدار البؤس الذي أحاط بهذا البلد لدرجة أن نعتبر القرن المنصرم هو أفضل القرون السياسية إذا ما وضعناه قبال القرون المنصرمة. 

فقدان النموذج لا يأتي دائمًا بسبب عوامل خارجية؛ قد يلعب العامل الذاتي دورًا محوريًا في جملة الانتكاسات التي تمر بها ثقافة ما

المغزى من هذا العرض السريع، أن نوضح مقدار الهول العظيم الذي تعرّضت له الذات العراقية، ومقدار التدمير "الخلّاق" الذي مني به هذا الشعب المغضوب عليه، حتى عاد كل عراقي "يحمل في الداخل ضدّه".

وماذا ننتظر من ثقافة منيت بهزائم جسيمة منذ ثمانية قرون على الأقل غير الخسران المبين، فانعدام النموذج هو أحد علامات الكفران، لذا لا نستغرب من بعض التناقضات التي يبديها العراقيون في وضعهم السياسي والاجتماعي طالما هم أبعد ما يكون عن النموذج، خصوصًا نحن نتحدث عن فترات طويلة حُرِم منها هذا الشعب من أي نموذج يُذكر.

لكن علينا أن نعترف، أن فقدان النموذج لا يأتي دائمًا بسبب عوامل خارجية؛ قد يلعب العامل الذاتي دورًا محوريًا في جملة الانتكاسات التي تمر بها ثقافة ما.

على أننا لا نقلل من المؤثرات الخارجية تمامًا، فقط، ومن باب ترتيب الأسبقية، تلعب العوامل الذاتية دورًا أوليًا في تفاقم المشكلة والتمهيد للسقوط.

 لقد لعب صدام حسين، كعامل داخلي، دورًا جوهريًا في مضاعفة الأسى على هذا الشعب المحتار، وفتح الباب واسعًا لعملية الغزو الأجنبي. ولم تنتهِ مرثية الوجع العراقي عند هذا الحد، بل استمر هذا العامل الذاتي عبر لعبة التكرار، التي يبدو أنها لا تنتهي في وضعنا السياسي، متصدية لأي عملية اختلاف ممكنة، فجاءت بـ "سياسيين" لا زالوا يقاومون بكفاح عابر لكل التصورات، كل عملية استقرار ممكنة، ما يجعل العراقيين يسترجعون مرة أخرى ذاكرة السبعينيات، باعتبارها أفضل عشر سنوات من الاستقرار السياسي مرت على البلد، ومن بعدها صام العراقيون عن الحكايات السعيدة حتى كتابة هذه السطور.