07-ديسمبر-2016

أفراد من الجيش العراقي يلقون القبض على مشتبه بانتمائهم لداعش (Getty)

تُعد معركة الموصل التي تخوضها حاليًا القوات العراقية بالتعاون مع عدة قوى أخرى في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" معركة مفصلية وهامة، إذ يعتبر انتزاع الموصل تحديدًا من "داعش" هزيمة رمزية كبيرة لها، وضربة مؤذنة بانهيار التنظيم وتفككه، وإفقاده واحدة من أهم ركائزه الاقتصادية.

لكن هل حقًا ستنتهي "داعش"؟ هل يعتبر تفكك البناء الحالي لتنظيم الدولة نهاية حقيقية للظاهرة؟ أتصور أن الإجابة على هذا السؤال تتطلب مناقشة أعمق حول السياقات الاجتماعية التي تتحرك فيها الظاهرة الداعشية ومثيلاتها.

مشروع الخلافة الذي يمثل للمسلم التقليدي هاجسًا دائمًا يحمل وعدًا بالإنقاذ من الواقع السيئ للدول والمجتمعات

فالتنظيمات الجهادية المسلحة -"داعش" وغيرها- تكتسب زخمًا قويًا في أوساط المجتمعات المسلمة، لا يرتبط في الحقيقة بقوتها العسكرية أو الميدانية فقط، وإنما لتقاطعها مع الثقل الرمزي لما تمثله للمسلمين بشكل عام، بما هي تجسيد حي لمشروع كامن في وعي المسلم المعاصر؛ مشروع الخلافة، والذي يمثل للمسلم التقليدي هاجسًا دائمًا يحمل وعدًا بالإنقاذ من الواقع السيئ للدول والمجتمعات العربية المعاصرة.

اقرأ/ي أيضًا: هل ينجح "داعش" في استنزاف قوات التحالف في الموصل؟

تتغذى هذه الرمزية وهذا الهاجس الدائم بالمباركة السماوية لمشروع الخلافة، على استدعاء السردية التاريخية التقليدية التي يقدمها الخطاب الديني اليومي المعتاد عن "ماض مزدهر" يُرَدّ في غالب الأحيان إلى "الالتزام بشرع الله" الذي يفترض الخطاب الديني أن المجتمعات الإسلامية التاريخية قد مارسته على أفضل أوجهه بجانبيه الفردي والاجتماعي، وبالتالي استحقت هذه المجتمعات "المجد" و"النصر" و"الازدهار"!

فعلى المستوى الفردي يعني "الالتزام" -الذي يروج له الخطاب التقليدي عادة- تطبيق الممارسات الطقوسية المعروفة، وهو جانب لا يحمل أي إشكال، وإن كان يختزل بشدة مسألة الإيمان إلى مستوى الطقوس، ولكن لهذا الجانب نقاش آخر.

بينما على المستوى الاجتماعي يعني هذا "الالتزام" -الذي هو شرط "النصر"- التطبيق الكامل للمدونة التشريعية والقانونية القائمة على الفقه الإسلامي، مفترضًا -في الوعي الشعبي- مثاليتها التشريعية واكتمالها، في مقابل القوانين المدنية أو "الوضعية"، وكمال أدواتها المنهجية -كونها صادرة عن الله!- كما وتطابقها من حيث القداسة مع النص المؤسس لها: القرآن والحديث!

وبهذه الطريقة يضع هذا التصور التقليدي عن "الشريعة" الفرد المسلم في مواجهة "الدولة" -بشكلها الحديث بطبيعة الحال- دون تقديم أي توفيق أو مصالحة بين المفهومين.

تقتصر المساحة المتاحة للمسلم العادي في انتقاد ظاهرة مثل "داعش" على رفض "المبالغة" في الدموية

فالقانون الذي يدير الدولة الحديثة، والذي يتطلب من الفرد الانصياع له هو قانون صادر عن "الأرض"، بمعنى أنه صادر عن مجموع المواطنين -على الأقل في الافتراض النظري وفي التطبيق الغربي وإن لم تصل التجربة في الدول العربية بعد إلى تطبيق ناجح يمكن الحديث عنه-، بينما القانون في الدولة المتخيلة في الثقافة التقليدية للمسلمين هو قانون صادر عن "السماء"، بمعنى أنه قانون مقدس في نهاية الأمر وإن قام على تطبيقه واستنباطه بشر، هم الفقهاء المؤهلون.

ويمكن لكل متابع أن يلاحظ تأثير هذه الإشكالية في ارتباك مواقف الإسلاميين وخطابهم -والتيارات السلفية تحديدًا- في بدايات مشروع الربيع العربي وثورات مصر وتونس على سبيل المثال، وهو ما أدى إلى إرباك المشروع ذاته، كون الإسلاميين مثلوا قسمًا كبيرًا من جسم التيارات الفاعلة في المنطقة وعاملًا حاسمًا في توجيه المسار.

وأمام ظاهرة مثل "داعش"، يمثل هذا الثقل الرمزي لمشروع "الخلافة" و"الشريعة" إرباكًا لموقف المسلم العادي، بما يجعله يفتقر إلى موقف حاسم وجذري تجاهها من الناحية القيمية والأخلاقية العامة.

وتبقى المساحة الوحيدة المتاحة للمسلم العادي في انتقاد ظاهرة مثل "داعش" هي في مستوى "الكم"وليس "الكيف"، بمعنى رفض "المبالغة" في الدموية ومشاهد الذبح والقتل وغير ذلك، ولكن مع قبول مبدأ ضرورة قيام "دولة الخلافة" التي هي محور مشروع "داعش".

اقرأ/ي أيضًا: مؤتمر الموصل في باريس.. سباق الغموض والعمومية

يمثل هذا الموقف المرتبك أحد أهم الصعوبات التي تواجه التحالف الدولي والقوات العراقية للتخلص من داعش. فطبيعة العلاقات العراقية\الإيرانية وحضور إيران في المشهد بشكل قوي، يخلق استفزازًا سنيًا في المقابل يصب في صالح داعش في نهاية الأمر. فالمسلم السني في هذا الموقف يجد نفسه في حيرة من أمره بين أن يؤيد "الشيعة" أو يؤيد "داعش"، وكثير من المسلمين بالفعل يفضلون في النهاية أن يقفوا في صف "داعش" على أن يقفوا في صف إيران والطائفة الشيعية.

فموقف المسلم السني تجاه "داعش" هو موقف "غير ممانع" للمشروع من ناحية المبدأ، وإن كان يميل إلى أن يكون التطبيق أقل وحشية ودموية مما تظهره "داعش"، فهو يتفق معها على المبدأ والأمور الجوهرية -ولو بشكل لا واع-، لكن يختلف معها في التفاصيل والأدوات. بينما يرى غالبية المسلمين السنة اختلافهم مع الشيعة اختلافًا جوهريًا والتعاون معهم مرفوض من ناحية المبدأ، وبالتالي يصب هذا الموقف في صالح داعش في نهاية المطاف.

موقف المسلم السني تجاه "داعش" موقف "غير ممانع" من ناحية المبدأ، وإن كان يميل إلى أن يكون التطبيق أقل وحشية

على الجانب الآخر، تقدم المؤسسات الإسلامية الرسمية عادة خطابًا إعلاميًا عقب كل حادثة صادمة تقدم عليها مثل هذه التنظيمات المسلحة، يعلن "رفض الإسلام" لـ"داعش" وما تمثله وما تمارسه، بينما لا يقدم من الناحية المنهجية والفعلية أي خطاب مغاير، أو تصورات مفاهيمية نوعية بديلة للمسلم العادي تجعل من الاختلاف مع "داعش" أمرًا منهجيًا وعميقًا، وليس مجرد اختلاف كمي أو اختلاف في توقيت تطبيق الشريعة، بما يفتح الباب أمام مصالحة حقيقية وعميقة بين الوعي المسلم المعاصر وبين مفاهيم حداثية محورية مثل "الدولة" و"العلم" و"القانون"، تتعارض معها التمثلات الذهنية التقليدية في الثقافة الحالية للمسلمين لمفاهيم مركزية مثل "الجهاد" و"الخلافة" و"الشريعة".

ما يعني أن القضاء على الجسم الحالي لتنظيم الدولة الإسلامية ليس في الحقيقة قضاء على الظاهرة، وإنما ربما قضاء على إحدى موجاتها الحادة، بانتظار الموجة القادمة تمامًا مثلما حدث مع القاعدة قبل سنوات.

فالرافد الحقيقي للتنظيمات الجهادية المسلحة من أمثال داعش والقاعدة لا يقع في الموصل، وإنما يقع داخل ثقافتنا نحن المسلمين، في المفاهيم المحورية التي تحكم وعي المسلم العادي اليوم، وهو أمر تغذيه في المقابل إخفاقات مشروع الدولة الحديثة في المنطقة وتأخر مشروع التنمية، بما يجعل المسلم العادي اليوم بين وهمين في الحقيقة: وهم دولة الخلافة المتخيلة، ووهم الدولة الحديثة الذي لم يتحقق قط.

اقرأ/ي أيضًا:

"قسد" تبدأ عزل الرقة.. وتعلق على "غضب الفرات"

شكرًا لأنكم أضعتم مستقبلهم