11-أغسطس-2019

محمد غازي الأخرس وغلاف روايته "ليلة المعاطف الرئاسية" (ألترا عراق)

قبل الدخول في الخطوط العامة لرواية "ليلة المعاطف الرئاسية"، هناك شيء أنوي التنويه له، وهو أن ما أريد مناقشته، طريقة تفكير الروائي ونجاحه - بحسب وجهة نظري - في رسم حبكة روايته، لذا لن أدقق في هذا المقال على التفاصيل، إذ كُتب عنها الكثير.

تسير رواية "ليلة المعاطف الرئاسية" بخطين زمنيين على مدار 40 فصلًا، فيما لو اعتبرت أن الفصل المسمى "فض الاشتباك" يحمل الرقم 40

مبدئيًا تسير الرواية بخطين زمنيين على مدار 40 فصلًا فيما لو اعتبرت أن الفصل المسمى "فض الاشتباك" يحمل الرقم 40.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| محمد غازي الأخرس: الهوية العراقية إشكالية عابرة للزمن

الخط الأول "القارئ + الجنرال كوكز"، كان لمسار اختلاط الواقعي بالغرائبي في الرواية بشكل واضح. هذا الاختلاط يعطي لي حق طرح مشكلة خلق المُبررات. وسأوضح الفكرة بمثال.

في رواية دون كيخوته يجعل سرڤانتس بطله يعيش في بعض الأحيان بلا واقعية وخيال، حيث تتحول الطواحين لعفاريت، لكننا سنكون أمام مبررات منطقية لأفعال دون كيخوته، فبسبب ولعه الشديد، وإيمانه بحقيقة ما تكتبه كتب الفروسية، يصاب بلوثه تجعل دماغه "يتخيل" الكثير من الأحداث "غير الواقعية".

في مثال آخر. لنقرأ هذا المقطع من افتتاحية أليس في بلاد العجائب "بدأ الضجر يتسلل إلى أليس من المكوث جالسة برفقة أختها عند منحدر من دون فعل أي شيء.. وأخذت تفكر بقدر ما استطاعت، فشدة الحرارة جعلتها تشعر بنعاس شديد وتبلّد".

في النص السابق يخلق لويس كارول لقرائه قبل الدخول في أحداث الرواية، مبررات مُقنعة لعالمه "العجائبي"، فأليس تشعر بفراغ، وضجر، ونعاس شديد في جو حار، هذه الحالات "فراغ - ضجر - نعاس - حرارة مرتفعة" من الممكن لها وببساطة أن تخلق هلاوس، أو أحلام - خيالات - ستفيد في التبرير لما ستراه أليس عند النزول لحفرة جحر الأرنب.

إن قصص الجن، هي أيضًا عالم عجائبي أو غرائبي تمامًا، لكنه عالم خُلق منذ البداية لعدم الثبات، فكل شيء فيه يظهر ويختفي بسهولة كالسحر

في مثال أخير، كي تتوضح الفكرة. نجد روبن وليامز بطل فيلم "ما الأحلام التي قد تتحقق"، يدخل من عالم واقعي لعالم خيالي غرائبي عجائبي، وسيكون المُبرر لهذا الدخول هو بقاء روح البطل معلقة بين الحياة والموت، روح تتحرك بين الفردوس والجحيم.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة محمد غازي الأخرس

إن قصص الجن، هي أيضًا عالم عجائبي أو غرائبي تمامًا، لكنه عالم خُلق منذ البداية لعدم الثبات، فكل شيء فيه يظهر ويختفي بسهولة كالسحر. "أما إذا ما تكلمت حيوانات، فليس يحضرنا أي شك أننا نعرف أن كلمات النص يجب أن تُحمل على محمل معنى آخر يُسمى أليغوريًا أو مرموزيًا"، كما يقول تودوروف.

هذا "المُبرر" الذي يستقر خلف أحداث الفيلم، أو الروايات السابقة في جزئها الخيالي، غير موجود في رواية ليلة المعاطف الرئاسية، فلا يبدو واضحًا لماذا تحول عالم البطلين الأولين للرواية "القارئ - الجنرال كوكز" الذي يشبه الأسطورة، من عالم واقعي لعالم غرائبي! حيث فجأة نجد أنفسنا أمام النص التالي "في الطريق إلى ساحة عنتر، نزلا إلى النفق، استغرب القارئ من أنه غارق بمياه سوداء تطفح فيها جثث حيوانات من كل الأنواع، كلاب وقطط وثعالب وطيور تطوف في بركة سوداء تملأ النفق".

بعد هذا النص، تبدأ الأحداث الغرائبية بالتحرّك على ورق الرواية، وهكذا..

يبدو لي أنه انتقال غير مُبرر من مشهد واقعي لمشاهد غرائبية بسبب عدم اهتمام الروائي بخلق المُبررات التي لا تهملها حتى الأسطورة.

لكن هذه الملاحظة، لا تعني أن الجانب "الغرائبي" من الرواية غير موفق، بل على العكس كان استخدام الخيال لسرد سيرة الرعب في عراق الثمانينيات صادقًا وذكيًا. من خلال رسائل الجنود العراقيين لذويهم كمثال.

وفي ملخص الجانب الخيالي من الرواية، يطلب الجنرال العراقي كوكز من القارئ - أحد أبطال الرواية - أن يحل شفرة في قصائد وضعتها سيدة تُلقب بالخاتون أو السيدة أدلر - نسبة للعالم ألفريد أدلر، وهي باحثة وعالمة اجتماع وشاعرة - هذه الشفرة سيستخدمها الجنرال في الكشف عن الجين الذي يحدد صفات وملامح الجندي الشجاع، أو الجبان لخلق مجتمع خالٍ من الجبناء، "يقول الجنرال إن هذه المعادلة المفقودة هي الأصل في كل المشروع، وهي معادلة علمية معقدة تقوم على التشريح ومن ثم معالجة الجين المسؤول عن الخوف"، يضيف: "الخاتون خبأت نتائج البحوث في قصائدها السخيفة".

في "ليلة المعاطف الرئاسية" كان استخدام الخيال لسرد سيرة الرعب في عراق الثمانينيات صادقًا وذكيًا. من خلال رسائل الجنود العراقيين لذويهم كمثال

وفي حركة ذكية يربط الروائي بين الشعر والعلم، فمن الممكن ملاحظة أن العلم بشكله البدائي، ترجع أصوله إلى الخرافات الشعرية التي كانت في البداية تحاول أن تفسر حقيقة النفس البشرية والعالم الذي نعيش فيه.

ومن خلال الطريق نفسه - تحويل الخرافة الشعرية أو الخيال لعلم - تبتدئ الفكرة التي تنطلق من فم عريف في الجيش، لتتحول للضابط المسؤول، فتستقر أمام مكتب الرئيس، وتتحول لأشعار ودراسات أدبية، وتستقر في النهاية كمشروع "علمي".

يحق لي مرة أخرى، أن اُعيد التساؤل عن المبررات التي جعلت الروائي يُخفي نتائج بحوث المعادلة التي يبحث عنها الجنرال كوكز عند الخاتون، وعن سبب عدم كشف محتواها - أي النتائج - لكن هذه المرة ستكون المبررات موجودة ومقبولة.

وبشكل مباشر، سأضطر لاستخدام التأويل في تفسير فعل الروائي السابق. إن إخفاء النتائج يحمل معاني أبرزها؛ أن الواقع يقول بعدم وجود نتائج علمية نهائية - حتى الآن - تستطيع أن ترسم خارطة جينية توفّر للعلماء معرفة كاملة لإمكانية حذف الخوف وصنع إنسان شجاع. أيضًا، إخفاء النتائج يعني عبثية هذه المحاولة التي قام بها النظام الدكتاتوري - في الرواية - أيام حرب العراق إيران. أمر آخر، كشف نتائج المعادلة، سيعني تنفيذ المشروع ومحو الخوف، وهذا ما لا يتوافق مع الجزء الواقعي من رواية ليلة المعاطف الرئاسية الذي يجري في عراق العام 2007. حيث يكون زمن الرواية الثاني "الراوي والأستاذ عواد" مكملًا لزمنها الأول "القارئ والجنرال كوكز". بعكس ما يقوله الناقد فاضل ثامر أن الرواية تسير بزمنين متوازيين.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حين قاربت روايات سنان أنطون العراق بوصفه منفى

لؤي حمزة عبّاس.. في المراهنة على اليأس