30-يناير-2021

كانت بغداد تتحول إلى مدينة أشباح أثناء حرب الخليج الثانية (فيسبوك)

لا أدري لماذا استوقفني قطار الزمن في محطات ذكريات منسية، ليجعلني أُشاهد من خلال نافذته صورًا من تلك الذكريات التي اختزلتْ كل معاني الوجود لتؤكد نظرية لا تقبل الجدال: إن حماقات الحاكم ونزواته ستجعل الشعب يدفع ثمنها بالتأكيد. بعد منتصف ليلة السادس عشر على السابع عشر من كانون الثاني/يناير عام 1991 كان العراقيون يترقبون بقلوبٍ خائفة وقلقة انطلاق صافرات الإنذار، وهي تُعلن بدء الحملة العسكرية التي قادتها أمريكا وجيوش الحلفاء المتكون أكثر من ثلاثين جيشًا في حربٍ ضد العراق سُميّتْ بـ"عاصفة الصحراء"، واسماها العراقيين آنذاك (أُم المعارك) وهو قرار أُممي اتخذ لردع العراق بعد غزوه لدولة الكويت.

كانت بغداد أثناء حرب الخليج الثانية تتحول إلى مدينة أشباح بعد غروب الشمس حيث يستقر الناس في مخابئهم وتتناهى إلى مسامعهم أصوات الانفجارات المستمرة

بدأ الهجوم بعد مُنتصف الليل بأسراب من الطائرات المتعددة الجنسيات فوق أجواء بغداد، لتتحول هذه المدينة الى كتلة من الجحيم تنتشر على أرضها الانفجارات والحرائق وأصوات القصف وأزيز الطائرات. استهدف هذا القصف كل شيء له معنى في الحياة، قصفوا محطات الماء، الكهرباء، ومؤسسات الدولة، وكل هدف ثابت ومتحرك، بل حتى صافرات الإنذار لم تسلم من ذلك القصف.

اقرأ/ي أيضًا: المفاهيم العميقة ونظامنا البدائي.. تعقيد بلا معنى

في تلك الليلة، تحولت بغداد إلى جحيم أو مشهد من حرب النجوم. ساعات ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر على هذه الأرض الملتهبة، لم يُمهل هذا الفجر سكان بغداد فرصة للتفكير أو التمعن بما يحدث، فكان قرار أغلب سكانها هو المغادرة، وترك منازلهم خِشية استهداف الطيران المعادي لهم، وخوفًا على حياتهم، خصوصًا أن بغداد تحولت إلى مدينة خراب ودمار، حيث لا ماء ولا كهرباء، واختفى أي مظهر من مظاهر الحياة، وهكذا انتقلتْ أغلب العوائل إلى محافظات جنوبية أو شمالية أو وسطى، فيما فضّل القليل منهم البقاء في منازلهم لاعتقادهم أن الأجل إذا جاء، فإنه لايتأخر عنهم ساعة ولا يتقدم، أو ربما لأنه ليس لديهم مأوى غير بيوتهم.

كانت بغداد تتحول إلى مدينة أشباح بعد غروب الشمس حيث يستقر الناس في مخابئهم وتتناهى إلى مسامعهم أصوات الانفجارات، وهم يقضون لياليهم الظلماء الشديدة البرودة على أضواء الشموع والفوانيس، حيث كان يعتقد البعض أنه من الخطر استعمال (الكشاف الضوئي) أو (اللايت) باعتباره سيكون هدفًا لقصف الطائرات التي كانت تستهدف أي بقعة ضوء، ولهذا كانت بغداد تعيش في ظلامٍ دامس، أما وسائط النقل فكانت شبه معدومة أو مُعطلة تقطعتْ بها أوصال المدينة لأن القصف استهدف كل محطات الوقود، لهذا كان التنقل بالسيارات أمرًا شبه مستحيل.

من يقرأ هذه السطور سيقرّ ويعترف أن الزمن قد توقف وهو فعلًا كذلك. كان البغداديون يُتابعون الأخبار والأحداث وما يجري من خلال جهاز (الراديو) الذي كان وسيلة الاتصال الوحيدة بالعالم الخارجي، وبالرغم من كونه الوسيلة الوحيدة للتواصل كان بعض المُتفيقهين والعُقلاء من العائلة ينصحون بعدم استخدام هذا الجهاز كثيرًا، خوفًا من رصد الطائرات لذبذبات أو ترددات هذا الجهاز، حيث كان من الممكن اعتبار البيوت هدفًا حيويًا للقصف حسب رأي عُقلائُنا، وبالقرب من منازلنا؛ كانت هناك مدارس استخدمها الجيش كثكنات عسكرية، كُنا ننظر إليهم بعين الخوف والرِيبة، وربما ببعض الحقد لاتخاذهم هذه الملاجئ القريبة من بيوتنا مقرًا لهم، لكن في المُحصلة كُنا نُشفق عليهم حيث لا ذنب لهم فيما يحدث. الكثير ممن عاش هذه الأحداث غادر الحياة، لكن صور تلك الأحداث وذكرياتها لم تغادر مخيلة وعقول الباقين. شعب كان دومًا يُذبح قُربانًا لنزوات حاكمٍ سابق وربما لحاكمٍ جديد، قوم دائمًا يتركون القدر يتحكم بمصيرهم وليتهم يعرفون إلى أين يأخذهم ذلك المصير.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أزمة السياسي العراقي في إدارة الدولة

الدولة المختطفة