13-نوفمبر-2021

كل الشعارات ستتعرّض للغربلة ولا يبقى منها سوى ما يفرضه الواقع (فيسبوك)

في كل حدث انتخابي تثبت لنا الأحداث الحقيقة التالية: إن كان ثمّة شيء غريب في هذه العملية السياسية العجيبة هو كراهية الديمقراطية والحقد الدفين على التداول السلمي للسلطة. المتحكمون في المشهد السياسي لا يرتضون بالديمقراطية بدلًا مالم تكن متسقةً مع رغباتهم السلطوية. التهديدات التي نسمعها من القوى الخاسرة، والاعتراضات اللا منطقية على نتائج الانتخابات ليست جديدة، إذ لم ننسَ ذلك المخاض الطويل الذي دام تسعة أشهر بالتمام والكمال، وفي حينها انتصرت خرافة "الكتلة الأكبر" على مكتسبات الكتلة الفائزة بأغلب الأصوات، ذلك أن الأسطورة الطائفية تقول من يحصد أكبر عدد من الأصوات ويتصدر قائمة الأغلبية فلا يحق له تشكيل الحكومة. وما يحدث اليوم من رفض واحتجاج ضد النتائج الأخيرة للانتخابات التي مٌنيت بها القوى الشيعية الخاسرة المُمَثّلة لأغلب فصائل الحشد الشعبي ليس غريبًا على ذاكرتنا القريبة.

الشعب العراقي يتوق إلى قيم الحرية والديمقراطية ونخبه السياسية تصفي حسابًا عسيرًا مع كل ما يمت للديمقراطية بصلة

لقد شكّل لنا ذلك الانقلاب على أسس الديمقراطية معضلة سياسية كبيرة، يوم تنكّر القوم لحق الأغلبية وراحوا يعجنون تلك العملية السياسية طبقًا لمشتهيات مطبخهم الطائفي. تحوّلت هذه السنّة السيئة إلى تقليد متّبع في النظام السياسي الطائفي في العراق الجديد، ولم تعد الديمقراطية سوى استحواذ بالقوة والقهر لصالح الأغلبية الطائفية. فإن جاءت نتيجة الانتخابات لصالح القوم كان بها وبخلافه سنشهد ليلًا طويلًا من المناكفات السياسية والتخوين والتهديد ولا تعقد الجلسة الأولى للحكومة الجديدة إلا بشق الأنفس وبعد تجريد العملية الديمقراطية من كل محتوى. فعلينا أن نضع تصريحات زعيم عصائب أهل الحق الأخيرة في نفس السياق التاريخي حين يصرح أن العملية السياسية أما توافقية أو ستكون النتيجة تهديدًا للسلم المجتمعي.

اقرأ/ي أيضًا: الأغلبية الوطنية والأغلبية التوافقية

ضمن هذا المنطق السياسي المعلوم للقاصي والداني، يمكننا أن نستنتج كالتالي: حتى لو بذل الناخبون جهدًا استثنائيًا ومميزًا في استبعاد الكثير من السياسيين السابقين، غير أن الشتيمة الشهيرة عند عموم العراقيين "الشعب هو المذنب" تبقى سارية المفعول. وكلّما نكّل السياسيون بهذا الشعب وقفزوا على استحقاقاتهم الانتخابية وأبدوا احتقارًا واضحًا لأسس الديمقراطية، سنرجع مرة أخرى لشتيمة الشعب العراقي!

الشعب العراقي يتوق إلى قيم الحرية والديمقراطية، ونخبه السياسية تصفي حسابًا عسيرًا مع كل ما يمت للديمقراطية بصلة. وتبدو المعادلة معكوسة هنا: الشعب يريد الديمقراطية والنخبة السياسية التي تحكم باسم الديمقراطية تريد الاستبداد. الشعب ينتخب لضمان حق الأغلبية السياسية والنخب السياسية تحتقر هذه الإرادة الشعبية. الشعب ينتخب من أجل الحرية التي ضمنها لها الدستور والنخب السياسية تعمل بمبدأ تكميم الأفواه وتصفية المعرضين.

وعلى الرغم من النفور الدائم الذي تبديه القوى السياسية الشيعية تجاه الديمقراطية، لكنها ما أن تتعرض للخطر الوشيك تستخدم آليات الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي وتصعّد من وتيرة الاحتجاجات إلى أبعد مدى. بينما لو تأخذ بعض الفئات الاجتماعية زمام الأمور وتتّخذ من الاحتجاجات كفعل ديمقراطي، سنرى مئات الضحايا تتساقط بظروف غامضة وستكون ملفاتهم الجنائية قيد الكتمان، وهذا ما حصل في انتفاضة تشرين. ديمقراطية التنظيمات الخاسرة تطالب بضحايا احتجاج الإطار التنسيقي، في حين تبقى ضحايا تشرين في ذمّة المجهول.

ولأن الديمقراطية كانت بمنزلة البلاء على القوى السياسية الشيعية، فإليكم بعض من خيرات الديمقراطية العراقية: رئيس وزراء لا يأتي إلا بكرنفال تسوية، ونواب لا يصوتون بحرية إلا بعد مباركة رئيس الكتلة. النتيجة: سلطة سياسية رخوة، وفساد ونهب علني للثروات، وقوة مسلحة لا تأتمر بأوامر المؤسسة الرسمية. ضمن هذه المقدمة لا تظهر دولة المؤسسات إلا بتغيير هذه المعادلة، أما الخطابات السياسية المنمقة لا تقدم ولا تؤخر.

ولأننا نفتقر للعمل المؤسساتي فسنعيد ما علّمنا إياه التاريخ السياسي، وهو كالتالي: إن العبرة البالغة في العمل السياسي والنقطة الأكثر أهمية هي نشر الغسيل في الهواء الطلق. فالقضية لا تحتمل المزيد من الفهلوة والخطابات المتناقضة لأنها ستأكل أصحابها في نهاية المطاف. لا نعثر على خطاب سياسي واضح المعالم لماذا؟ لأننا أمام شخصيات مٌسَيَّسَة وليست سياسية بما للكلمة من معنى.

إن كل الشعارات والأحلام المثالية ستتعرّض للغربلة ولا يبقى منها سوى ما يفرضه الواقع. ذلك أن السياسة بنت الواقع (وهذا ما لا يفهمه ساسة العراق إلا بعد فوات الأوان). ستكون كل صياغاتك المنطقية في وضعية غربلة لا تُحسد عليها. كل مقولات "الطائفة الحق" ستتعرض لهزّة عنيفة ومدوية في بعض الأحيان، فزَبَد الشعارات يذهب ولا يبقى سوى المنفعة العامة والمصالح السياسية التي تصب في صالح الناس.

 المشكلة هي أنك لا تمتلك ترف الاختيار؛ إما أن تكون في صلب السياسية أو ستقذفك رمال الشعارات في صحراء التيه ولو بعد حين. لقد بدأت بعض التنظيمات الدينية بشعارات مثالية برّاقة وأنتهى بها الحال إلى تجربة عنيفة ومرّة تحاول أن تتلافى خسائرها من خلال فهم كيفية إدارة المصالح بأقل خسائر ممكنة. لكن المشكل الأكبر في هذه التنظيمات أنها فوق التاريخ، فوق الواقع، بيد أن هذا الأخير أصلب من كل الشعارات. أما أن تكون رجل دولة أو تنتهي بك الأوضاع إلى زاوية معتمّة في التاريخ السياسي.

في ديمقراطية  العراق سلطة سياسية رخوة وفساد ونهب علني للثروات وقوة مسلحة لا تأتمر بأوامر المؤسسة الرسمية

إن كانت ثمة مصيبة في تاريخنا السياسي هي مصيبة تجاهل الماضي وعدم أخذ العبرة، وإن جاءت العبرة فستكون متأخرة بعد حلول الكارثة.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تحديات نواب الاحتجاج: النموذج الأول والمهام الجسام

المقاطعون ومشاركة "تشرين" بالانتخابات