24-أكتوبر-2015

أوغوز جوريل/ تركيا

يختزل مشهد إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيًّا، من قبل تنظيم داعش الإرهابي، السمة الجوهرية التي تميز العنف الداعشي عن غيره، لا من حيث تبنيه القاعدة الذهبية للقصاص الحمورابيّ "العين بالعين والسن بالسن"، بل من حيث كونه عنفًا وجوديًا هدفه الأخير إزالة الخصم من حيّز الوجود. مرتكب هذا العنف لا يرتكبه من حيث كونه وسيلة فعالة في إلقاء الرعب في قلب الخصم، ولا قصاصًا مهيبًا بوصفه صورة من صور الجحيم الإلهي، بل بوصفه محقًا لكائن شيطاني يكاد سلوكه المنحرف أن يتهدد الوجود الكوني بالهلاك.

يمارس الداعشيّ عمليات القتل والحرق وتقطيع الأطراف والرؤوس، كما لو كانت عملًا يوميًا نبيلًا 

يحرص العنف الداعشي على أن يتبدى لأنصاره ومرتكبيه على أنه جزء من صراع كوني، يهدف إلى تحقيق الخير الأسمى في العالم المليء بالشر والخطيئة. طرفاه الرئيسيان الله وأنصاره من جهة، والشيطان وحلفاؤه من جهة أخرى، الأمر الذي يمنح لعنفه الممارس كل مواصفات العنف العقائدي، أي المبرر أخلاقيًا من قبل مرتكبيه في كونه خيرًا مطلقًا. العنف العقائدي يمنح صاحبه الرضا النفسي عند ارتكابه الفعل الإجرامي، كما يمنحه القدرة الروحية المصحوبة بإحساس متعالٍ من الشعور بالتقوى والاندماج في الفعل الإلهي، دون مبالاة بألم الضحية الحاملة للإثم الشيطاني.

يساهم مثل هذا التصور في إثارة وتنشيط خيال أعضاء العنف الداعشي من حيث كونهم منذورين للقيام بأفعال رسولية مقدسة، يأتي على رأس أولوياتها المساهمة في بناء دولة الخلافة العادلة، وفي سبيل تحقيق هذا الحلم -الذي كان ومازال بمثابة الحلم الذهبي الذي يرنو إليه كل مسلم- يحوز الداعشي على ترسانة من التبريرات الأخلاقية التي تساعده في استسهال القيام بأي عمل وحشي مهما بلغ تصوره. فتراه يمارس عمليات القتل والحرق وتقطيع الأطراف والرؤوس، كما لو كانت عملًا يوميًا نبيلًا. كما يمارس النهب بهمة من يقوم بمهمة بغزو مقدس، ويقترف الاغتصاب كما لو أنه واجب ديني، وجرائم القتل الجماعي بدم بارد بوصفها فعلًا يتبرك به لدخول الجنة.

من الخطأ الاعتقاد أن هذا العنف الداعشي خاصية من خصائص الديني الإسلامي، فالعنف العقائدي، كما تبدى في التاريخ، كان وما يزال سمة بشرية عامة اخترقت الديانات والحضارات والقبائل، فقد وصلت حدة الاختراق قلب المجمع الكنسي نفسه ممثلًا بالبابا الذي تفقت ذهنيته العقائدية عن تشكيل محاكم التفتيش التي لا تختلف ممارستها الوحشية عن الممارسات الداعشية، حيث كانت عقوبتها المفضلة إحراق الخطاة أحياء على مرأى من الجميع، كما لو كان الأمر عيدًا من أعياد الوثنيتين السعداء باكتشاف قوة النار السحرية على المحو. 
    
ماذا نقول عن ممارسات ستالين الذي مارس عنفًا عقائديًا يماثل في عنفه العنف الديني، بل يتفوق عليه؟ وذلك عبر تبنيه مقولة العنف الثوري الذي اتخذ شكل تدمير ممنهج  للبنى الاجتماعية السابقة من ملاك أراض ونبلاء ورجال دين ورجال شرطة وغيرهم.. وإلقاء أصحابها في الجحيم، ولم يكتف بذلك بل عاد عنفه المقدس ليطاول رفاقه في العمل الثوري، أؤلئك الذين أبدوا اختلافًا فكريًا معه، أو الذين اكتشفت محاكم التفتيش الحزبية عدم ولائهم المطلق للأخ الأكبر ستالين المبجل.

ولّدت ممارست ستالين القمعية ضحايا بمئات الآلاف، ناهيك عن المجاعات التي تسبب بها إصلاحه الزراعي الفاشل، كما أعادت للعبودية حضورها المركزي في قلب الدولة الشيوعية الوليدة. فمعسكرات الاعتقال التعسفي، جمعت بين العمل العبودي وتطهير الأفراد الآثمين من أخلاقيات البرجوازي الصغير الأنانية.

هل ننسى الممارسات الاستعمارية للدول الأوربية، التي استلهمت عنفها العقائدي المتمثل بفكرة تفوق الرجل الأبيض على غيره؟

هل لنا أن ننسى الممارسات الاستعمارية التي قادتها بعض الدول الأوربية، مستلهمة عنفها العقائدي المتمثل بفكرة تفوق الرجل الأبيض على غيره من شعوب الأرض بحجة قصورهم الحضاري والإنساني، فأخرجت من جعبتها مصطلحات الوصاية والحماية  لتبرر لنفسها الاستمرار في نهب خيرات الشعوب، ولم تتوانَ يومًا عن ارتكاب أبشع المجازر بحق أبناء الشعوب المحتلة كما في مذبحة سطيف عام 1945، التي ارتكبتها القوات الفرنسيون المحتلة ضد المدنيين العزل الذين طالبوا بحق الجزائريين في الحرية والاستقلال.

يتبدى العنف الداعشي كما لو أنه عنف ساحق لا راد له، ستصل مفاعليه حد التمكن من بناء دولة داعشية ذات لبوس ديني، كما ستشكل هذه الدولة القاعدة المناسبة لاستعادة مجد دولة الخلافة الإمبراطوري. يبدو هذا التصور أقرب الى الأمنيات منه إلى الواقع المعاش، فبعد اندفاعاتها التوسعية في العام الماضي لم تتمكن داعش من التوسع في نقاط جديدة، ذلك أن قواعد اللعبة التي فرضتها عليها القوة الأمريكية المدعومة بعدد من الحلفاء حدت من اندفاعات داعش التوسعية. إلا أنه لم تصل بعد الى قرار القضاء عليها كونها ما تزال تخدم أهدافًا سياسية في الإقليم الذي تنشط فيه.

أثبتت وقائع الأحداث المستمدة من التجربة البشرية أن أي تنظيمات إرهابية أو عنفية أو توسعية، لديها قدرة محدودة على ممارسة العنف وفق منطق الحرب الشاملة الذي تستعدي الجميع. ذلك أن العنف الذي تمارسه على الآخرين سيولّد مقاومة ستتمكن عاجلًا أو آجلًا من استنزاف قوتها. فطموح داعش للتوسع سيستفز العديد من الدول التي سوف تتعاون على هزيمتها.

وجدت عبر التاريخ تنظيمات أعظم شأنًا من داعش، مارست الإرهاب الجماعي، ووتمكنت من الوصول إلى السلطة، إلا أنها خسرت في النهاية بسبب انبهارها بالعنف وخوضها حربًا شاملة على المجتمع. وفي التاريخ الحديث، ما من منظّمة ارتكبت جرائم جماعيّة نجحت في الصمود لوقت طويل في السلطة. فقد تعرّضت ألمانيا النازيّة للهزيمة في سنوات قليلة، بعدما احتلّت مجمل أرجاء أوروبا، كما أطاحت القوات الفييتناميّة بالخمير الحمر، ومَثُل قادتهم أمام قضاة دوليّين، وفي وقت ليس بعيد منيّ الاحتلال الأمريكي للعراق بالفشل رغم القوة العسكرية التي يمتلكها.

اقرأ/ي للكاتب:

سكاكين داعش التي لن تحدث فرقاً

الفلسطيني السوري.. ذاتٌ تتشظى