11-يونيو-2022
الحرية

ينظر للحرية على أنها تهديد وجودي للنظام السياسي (فيسبوك)

"لا يمكن التحرر من الداخل إذا كانت الحرية نفسها غير حرة، أي رعوية وليست مدنية". فتحي المسكيني، التفكير بعد هيدغر.

بين الحين والآخر تجري الكثير من الجدالات في الأوساط الشعبية، وبالخصوص في مواقع التواصل الاجتماعي، حول الحرية بوصفها أولوية قصوى تترفع عن كل أشكال المساومات، أو كونها تأتي بالسلّم الثاني بعد الاستقرار. هذا اللغط تجريدي في جوهره، لأنه يفترض معوقات متخيلة حين تتقدم الحرية على سواها من القضايا الأساسية التي تمس صميم العمل السياسي. والحق أن نفي الإكراه، بوصفه حرية، لا يتعارض مع مشكل الاستقرار الذي يبدو أحد إشكالياتنا السياسية العويصة. بمعنى لا يحدث أي اضطراب مزعوم لو سارت الحرية والاستقرار جنبًا إلى جنب.

الكثير من الجماعات في العراق تعتبر الحرية مشكلة اجتماعية

لا أتكلم هنا عن فترات الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي تضمر فيها الحريات المدنية، ويعلو فيها صوت "النفير العام"، والأحكام العرفية التي تشرعن للسياسي كل أشكال القمع دفاعًا عن السلم الاجتماعي. ففي هذه الحالة يضطرب سجل الأولويات من الأساس. لكنّ أشكال الدفاع الشعبي، ومجمل القضايا التي تثار في هذه الفترات، سيكون دافعها الأساس هو الحق بالحياة، ويشكل هذا الأخير أحد المقدمات الجوهرية لنيل الحرية، حيث أن حق الحياة يتزامن تمامًا مع نفي الإكراه؛ إكراهنا على أن نموت مثلاً!

 بكل الأحوال ليست الإشكالية هنا عن حقبة تاريخية مضطربة يسود فيها منطق القوة والاقتتال بين فئات الشعب، وإنما تكمن إشكاليتنا، هنا وبالذات، عن صيغ الحرية ذات النزوع الرعوي، التي تجرّد الحرية من جوهرها المدني وتحيلها إلى صيغة رعوية محضة، يكون فيها "الراعي- الرئيس" هو مصدر الهبات والأعطيات، وهو من يقرر المصالح والمفاسد، حتى لو كان محكومًا بنظام ديمقراطي تعددي، لكنه سرعان ما يرتد لنموذجه الأثير "الراعي".

نحن لا نطالب بالحرية كشرط وجودي، وإنما، وفي العراق على وجه الخصوص، نطالب تحرير الحرية من دلالاتها الرعوية وإرجاعها إلى منزلها المدني. ذلك إننا لازالنا نتداول الحرية بحمولتها السالبة؛ بوصفها هبة، أو تنازل شخصي، أو كيس من الدنانير يرميه الخليفة على أحد ندمائه.

هذه أشكاليتنا في العراق فيما يخص الحرية. وإلا يمكن لرجل دين، أو شيخ قبيلة، أو سياسي، أن يسقط حقه بالدفاع عن نفسه ويغض الطرف عن كل الإساءات، أو الملاحظات النقدية التي يتعرض لها، لكنها بالتأكيد لن تكون متماهية مع مبادئ الحريات المدنية، بل ستمشي جنبًا إلى جنب مع بنيته النفسية والاجتماعية والتاريخية، فهو يتسامح ويغض الطرف كونه راعٍ لقطعانه وليس شيء آخر (تتوفر الفلسفة البوذية على نموذج للراعي لا يخلو من إثارة: لا يكون الراعي في مقدمة الركب، بل للقطيع ميزة التقدم والاجتياز، وسيكون الراعي في مؤخرة القطيع، دلالة على الرأفة اللا محدودة والشعور الأمومي تجاه كل الكائنات، بلا قيد أو شرط، التي لها حق العبور الآمن قبل عبور الراعي).

تنطوي الحرية في ذهن الراعي على ثنائية حادة تكون فيها حبيسة الألفة والنفور التي يبديهما ذلك الراعي تجاه قطيعة، رهينة لنزوعاته النفسية، مُدرَجَة ضمن سجل أولويات يحدد فيه الفئة أو الشخص الذي يحظى بتلك الحرية. ذلك الراعي، يكتب فتحي المسكيني: "الأمين على المعنى كضيعة روحية أو ملكية أخلاقية للخاصة، أو القائد الذي يستبد بمخزون معنى لا يمكن التصريح به للجمهور، وإلا تحول إلى فتنة ونقاش يومي بلا أصالة". فهذا "القائد"، تارة يكون رجل دين، وأخرى سياسي، وثالثة شيخ قبيلة، يجمعهم هدف واحد: الاهتمام بالقطعان وتحديد الفسحة الكافية التي تلائمه.

الحرية في العراق هي حرية سالبة تعدم جوهرها الحقيقي وتبقى حبيسة تصورات تعتبرها مشكلة اجتماعية إذا انتقلت من إطارها الرعوي إلى فضائها المدني. لا نستغرب حول سلوك بعض الفئات الاجتماعية التي تخشى الحرية أكثر من خشيتها من هذا الخراب الذي نشهده، وترادفها دائمًا بالإباحية.

النظام السياسي العراقي ينظر إلى الحرية على أنها تهديد وجودي له

فالكلام عن الحرية في هذا البلد، ووسط نظام سياسي يعتبرها مصدر تهديد مستمر لوجوده، يشبه الكلام عن المباحث الميتافيزيقية؛ محاولة أثبات جواهر وماهيات بطريقة تجريدية محضة. ولك أن تدرك مقدار المأزق الذي تعانيه الحرية في العراق الجديد: أنها تريد أن تتحرر من راعيها المستبد.