20-فبراير-2022

السياسي العراقي هو الكائن الذي لا يقيم وزنًا لعواقب أفعاله (فيسبوك)

كل المبادئ المثالية التي تحذلق بها السياسيون بمختلف توجهاتهم سقطت، ولا زالت، أمام شهوة السلطة. ولا أحد في الوقت الراهن برهن على صدق العقيدة السياسية التي يتشدق بها. فالعقيدة السياسية في العراق لا تعدو أن تكون شكلًا تبريريًا تضمر أهدافًا غير معلنة ولا تعبر عنها بوضوح في الخطاب السياسي، وعادة ما يرافقها العنف الدموي حتى آخر أيامها. فيغدو الإقصاء والتهميش والانقلاب هو المشروع الذي نجحت به كل العقائد السياسية التي تعاقبت على العراق ابتداءً من لحظة 1958 وإلى يومنا هذا. فلا نرى من العقيدة سوى جانبها المظلم الذي تتجلى فيه أكثر أشكال العنف الدموي في تاريخ العراق السياسي، وتتحول مؤسسات الدولة أسيرة بيد الحزب أو الرئيس أو الميليشيا، وهذه الأخيرة لم تفارق الأنظمة السياسية التي توالت على حكم العراق بعد الإطاحة بالملكية، وكانت فظائعها أشهر من أن تُذكَر.

المشكلة في هذا البلد أنه لا الأحزاب الدينية ولا الدنيوية استطاعت أن توطّد مفهوم الدولة الحديثة

ستعثر على كل شيء في هذه العقيدة: ميليشيات، انقلابات دموية، تسييس القضاء، الخ.. إلّا بناء الدولة، فتقف العقيدة السياسية أمامها مكتوفة الأيدي. ستعثر على شعارات حماسية، وجمهور شعبوي، وإيمان منقطع النظير في هذه العقيدة أو تلك، لكنّك لا تعثر على العمل المؤسساتي، إذ سرعان ما تلعب العوامل الشخصية والفئوية دورًا بارزًا في تحييد قوة الدولة، ثم تتلاشى العوامل الفئوية ويتم اختزالها بشخص واحد فقط، أما الباقون فهم رعايا في أحسن أحوالهم. لا يشذ عن ذلك لا اليساريون، ولا القوميون، ولا الإسلاميون. قد نفاضل بين هذا وذاك نظرًا لاختلاف الدرجات بين هؤلاء الثلاثة؛ فقد نسجّل بعض البرامج التنموية عند هذا الطرف أو ذاك، لكن الفارق النوعي لا يسجّل أي تغيير، أي أنهم متفقون بالنوع ومختلفون بالدرجة، وكلّهم مجمعون على هذا الحلف المقدس: تضخيم السلطة على حساب الدولة. وما أن يسقط ذلك النظام السياسي، أو ذلك الشخص بتعبير أدق، حتى تتساقط مؤسسات الدولة كقطع الدومينو، وينهار البلد بأكمله، وندخل في طاحونة احتراب مرير.

اقرأ/ي أيضًا: العراق "غير مهيأ".. الكفاح ضد الديمقراطية والتغيير

بينما وجد الآخرون الترياق المضاد لمرض السلطة المستفحل عند بني البشر، من خلال نظام سياسي ديمقراطي ومؤسساتي يكبح الاستبداد ويضع حداً للاجتهادات الفردية، وجد السياسي العراقي ترياقاً مضادًا لكل هذا: المزيد من تضخيم السلطة على حساب الدولة حتى لو احترقت البلاد بمن فيها. وهو يدافع ليل نهار لكي لا تخرج هذه المعادلة من بين يديه؛ ينبغي ألّا يتنظّم المجتمع طبقًا للمعايير الحديثة، ولا ينتخب ممثليه على أساس البرنامج العملي، بل عليه أن يحوّل الديمقراطية إلى ناطق رسمي للمجتمع التقليدي. عليه أن يختار ممثليه على أساس الولاءات المذهبية، والقبلية، والعرقية، وأن يبقى الإيمان والفطرة يلعبان دورًا في تحديد ماهية الناخب العراقي، كما أنه ينبغي على الأتباع أن يدافعوا عن رموزهم السياسية - المذهبية مثلما يدافعون عن العقيدة الدينية.

المشكلة في هذا البلد أنه لا الأحزاب الدينية ولا الدنيوية استطاعت أن توطّد مفهوم الدولة الحديثة. لا السابقون ولا اللاحقون أمكنهم من بلورة نموذج مقنع لكي نستطيع القول إن هذه العقيدة السياسية تختلف عن تلك. فمثلما ذكرنا، كلهم أجمعوا على خراب الأوطان مقابل مجدهم الشخصي. لماذا ظل صدام حسين يرفض العقل والمنطق حتى الرمق الأخير؟ لأنّه كان يعتقد أن العراق ملكه الشخصي ولا يحق لأحدٍ غيره التمتّع بهذا الملك الخالص لآل المجيد! أو لحزب البعث التكريتي.

 على أي حال، فتاريخ القوميين منغمس بالدم والدموع، وتاريخ الإسلاميين الذي نتعايشه بمرارة في الوقت الراهن غني عن التعريف. فبماذا نفسر ذلك؟ أن السابقين واللاحقين آمنوا بقناعة راسخة مفادها، ينبغي على العراق أن يبقى في طور المجتمعات التقليدية. وإن كان ثمة كفاح شرس أبداه هؤلاء هو إبقاء العراق على هذه الحالة. ينبغي أن يبقى القائد، والشيخ، ورجل الدين، هو المعنى الجوهري الذي يختزل كل مؤسسات الدولة. على الميليشيا أن تكون مقدمة على المؤسسة العسكرية، وعلى الهوية الفرعية أن تكون مقدمة على هوية الدولة، وعلى الشخص أن يكون مقدمًا على الوطن، إذ يمكن أن تشتعل نيران الحرب من الشمال إلى الجنوب من أجل مجده الشخصي.

حتى هذه اللحظة لا أحد يرى نفسه معنيًا بتحريك الراكد أو القفز عن المألوف. لذلك، ومن وجهة نظر شخصية، أن الإشكالية الجوهرية في العراق تتعدى هذا التقسيم النمطي (يساريون، قوميون، إسلاميون)، بل ينبغي دفع الإشكالية إلى أبعد من ذلك: لماذا فشل كل هؤلاء في إرساء دعائم الدولة الحديثة؟ وسواء اختلفنا مع هذه الأيديولوجيا أو تلك (وهم كلهم سيئون على أي حال) فالمشترك الذي يجمع هؤلاء هو أكبر من الأيديولوجيا: أنها الرغبة العارمة في الدفاع عن السلطة وتحطيم الدولة، والدفاع عن المكاسب الشخصية حتى الرمق الأخير.

إذًا، لو أردنا أن نعرّف السياسي العراقي بتعريف جامع مانع، كما يقول المناطقة، فعلى الأرجح سيكون التعريف كالتالي: أنه الكائن الذي لا يقيم وزنًا لعواقب أفعاله، ولا يأخذ العبرة من أحداث التاريخ مهما كانت قريبة! واختار أن يبقى مُسَيَّس على أن يكون سياسيًا محترفًا، ويمكن أن يشعل الحرائق في كل أرجاء البلد لو تعلّق الأمر بالسلطة. ولكي نتأكد من صحّة زعمنا هذا، علينا أن نتصفح تاريخنا السياسي ونحلله على ضوء هذا التعريف، ربما نكون قد ظلمنا السياسي العراقي ولا ندري!

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ورطة الديمقراطية

الواقع العراقي وشروطه المُعَقّدَة