09-أكتوبر-2021

متحف الأمن الأحمر (Getty)

يرتهن الإنسان بذاكرته ولا غرابة في ذلك؛ ألم يصفها نيتشه بأنها قوة، وبذا فإنها الأساس في تشكيل تصورات الإنسان عن ماضيه ومن ثمَّ مستقبله؛ الفرد والجماعة على حد سواء، ولأن ذاكرة الجماعات مثقلة بفوضى الحوادث والانتهاكات، فمن الضرورة هندستها توثيقيًا بطريقة تليق بهيبة الأحزان على وفق معمار منظم لا يقف عند سياسات الذاكرة، الممثلة؛ بالتماثيل والنصب، والذكرى الوطنية، واليوم العالمي، ولكن متحفًا بأسلوب فني منماز. 

 احتوى المبنى الخاص بضحايا "حلبجة" تشكيلًا رمزيًا ممثلًا بالمرايا المتكسرة للدلالة على عدد الضحايا وكانت بما يقارب 1800 شظية مرآة ملصقة على جدران القسم بالكامل

وفي ذهابي إلى مدينة السليمانية، قصدت في أول يوم زيارتي؛ متاحفها، وكان أحدها مبنى "مديرية الأمن العام" العائد لنظام الحكم السابق، الواقع في مركز المدينة، وقد حولته سلطة الإقليم بعد أحداث عام 1991، متحفًا احتوى إلى جانب الآليات العسكرية من دبابات وسيارات نقل، أساليب التوثيق المتنوعة من مجسمات وصور وقوائم أسماء ومستمسكات، وآثار مختلفة لضحايا الانتهاكات والإبادات الكبرى التي تعرض لها الأكراد؛ ممثلة بسلسلة حملات الأنفال، وضحايا التهجير، وأحداث عصابات الإرهاب "داعش"، وضحايا سجن "نكرة السلمان"، والمقابر الجماعية، فكان كل قسم من مبنى المديرية مخصصًا لحادثة من تلك الحوادث، لذلك يدعى بمتحف "الأمن الأحمر" ليس لأن طابوق المبنى مائلًا للون الأحمر فحسب، ولكن بوصفه نموذج "الأطر المكانية" للذكرى؛ صورة حسية شاخصة لذكريات مشتركة؛ ذكريات تحفر في النفوس، المكان الذي كانت تتعالى فيه صرخات التعذيب، وتلفظ تحت سقوفه الأنفاس الأخيرة، لقد تحول مبنى الجلاد بديلًا وجوديًا للضحايا، صرخة الألم تحولت إلى صوت مُجهِر بالحقيقة، إذ لا ترحل الأرواح من دون أن تترك بصمة، في الذاكرة التي اتخذت مكانها بين تلك الجدران.

اقرأ/ي أيضًا: عطر العراق المعتّق.. قصة سيدة الكيمياء الأولى عبر التاريخ

إحياء الذاكرة وإعادة بنائها وتشكيلها على وفق سلسلة أحداث عُرِضت في ذلك المبنى، ممارسة مهمة في حياة الجماعات في ما لو لم يكن هناك خطاب مضمر، بوصفها اعتدادًا بذاكرتهم، واحترامًا لأحزانهم العميقة، وإقامةً لها، فهي أحداث "غير قابلة لجبر الضرر" على حد وصف "جاك دريدا"، وهي إن كانت سياسة ذاكرة فهي بذلك تعد استراتيجية نسيان تساعدهم في هضم مأساتهم، أن تقف أمام أحزانك وتتأملها؛ فإنك تستوعبها، فضلاً عن توخي الدقة في اختيار المكان، بوصفه مركز المحو، حيث العنف والقمع والاضطهاد سابقًا، فربط الذكرى بالمكان أحد أهم وسائل "فن تقوية الذاكرة" كما أشار "يان أسمن"، لذلك فقد حافظوا على معالمه كما هي عن طريق تغليف جدران السجون؛ الجماعية، والفردية، وغرف التعذيب، بواسطة غلاف بلاستيك شفاف يتيح رؤية تآكل الجدران وأوساخها وذكريات السجناء وكتاباتهم، حروف متناثرة كُتِبت بأحبار اليأس واختلطت بالدماء الملطخة هنا وهناك، كانت هذه الغرف فضاءات موحشة هاربة من حسابات الإنسانية، فاختزلت تاريخ العنف. 

لم يقف أسلوب إعادة بناء الذاكرة في الاختيار الموفق للمكان فحسب، ولكن في اختيار الأسلوب الفني "المؤثر" في التوثيق وتكثيف الدلالة،  حيث يتداخل التوثيق بالتخييل أو ما يمكن أن نطلق عليه التوثيق فنيًا، وكان أهمها أسلوب الرمز؛ فقد احتوى المبنى الخاص بضحايا "حلبجة" تشكيلاً رمزيًا ممثلاً بالمرايا المتكسرة للدلالة على عدد الضحايا وكانت بما يقارب 1800 شظية مرآة ملصقة على جدران القسم بالكامل، كل شظية منها تمثل ضحية من ضحايا الإبادة، فعندما تفوق فداحة الحدث تصوراتنا لا يسعفنا في إدراكها حينئذ سوى أساليب التخييل.

أما الأسلوب الفني الآخر فهو المجسّمات؛ وأركّز هنا على المجسمات المقامة في غرف التعذيب؛ حيث ركز الفنان على التكثيف التعبيري لحظة تماهي الإنسان مع الشر؛ عن طريق ملامح الوجه في مجسمات الشخصيات القائمة بفعل التعذيب، فالفنان هنا يبتكر وثائقه في تقديم حدث التعذيب بما يكثف الحضور الذاكري ويرسخ الفعل في الذهن من أجل ذاكرة حية. 

ولو أردنا النظر لمتحف الذاكرة من زاوية أخرى؛ نجده ربما لا يبتعد في جانبه التأثيري عن التوافق ورغبات السلطة ببعديها السياسي والقومي، بما يشكله من قوة ناعمة في تشكيل الخطاب القائم على "فعل التذكّر" بتاريخ الدماء المنتهكة؛ لتمرير ما دار من أقاويل حول القيام بإعدام ضباط جهاز الأمن العام ومنتسبيه التابعين لنظام البعث في المبنى، قبل تحويله؛ أي ممارسة فعل الانتهاك نفسه، وهذه مسألة غاية في الأهمية؛ فأحيانًا يضمر فعل التذكر سواء بقصد أم من دونه؛ دعوة إلى التماهي مع فعل الجلاد، وكثيرًا ما أبدت الجماعات المضطهدة ردود أفعال مماثلة لما تعرّضت له من عنف وأدانته سابقًا، أي دعوة للانتقام، وهذا يحيلنا الى السؤال: هل استطاع فعل التذكر "المتحف" هنا؛ أن يقدم إدانة أخلاقية لفعل الانتهاك بشكل مطلق، أم أن العنف مدان من الجماعة لأنه وقع عليها فقط، والإجابة على هذا السؤال تتشكل من سلوكات الجماعة على أرض الواقع، إن كانت تتوفر على اتعاظ من التجربة المريرة، ومن ثم رفض عملي لممارسات العنف جميعها، أم أنها ستعيد ممارسة الفعل نفسه عن طريق تقديم التأييد الاجتماعي لسلطتها، لتصل بذلك سلسلة حلقات العنف التي لن تنقطع بتصعيد روح الانتقام، فالمتحف هنا أما أن يكون فعل تذكر تسعى عن طريقه السلطة إلى تقوية الذاكرة، أو تحقيق وجود ملموس للذكرى من أجل النسيان ونبذ العنف إلى الأبد.

فعلاقة السلطة بالذاكرة راسخة في أدبيات السياسة، فقد ظلت الذاكرة على الدوام مهماز السلطة الفاعل؛ وكان "فعل التذكر" أداة مثلى للسلطة في تشكيل الخطاب، بوصفه أي فعل التذكّر؛ ممارسة سلطوية تندرج ضمن الكيفية التي تحقق السلطة عن طريقها تأثيرها؛ من جهة التركيز على البعد الوجداني لتقمص الوظيفة الأخلاقية أو ما يسميها غرامشي الزعامة الأخلاقية، لتكريس خطابها، ومن ثمَّ وجودها. 

كانت زيارة المتحف على المستوى الشخصي، تجربة مهمة يمكن أن أعدّها تطبيقًا ميدانيًا لدراسات "فعل التذكر"، وإعادة بناء الذاكرة، فالمبنى عبارة عن  لحظة تاريخية تناهى إلى مسمعي فيها نشيج المظلوم مرتفعًا في عقر دار الظالم، وأنا اتفرج الصور وشواهد العنف والتعذيب والقتل أدرك أن العاطفة اقترنت بكلمة "الإنسان" من دون الإنسان نفسه؛ ذلك الكائن العنيف الموغل في الوحشية بطريقة منظمة. 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

آلهة الشعر وسيّدات الملحمة.. ترانيم العراق القديم تصدح في نيويورك

أرشيف "صانعة الملوك".. فوتوغرافيا ذاكرة العراق المُهملَة