10-نوفمبر-2020

شيوع عمليات النبذ والإقصاء من الأعطاب الاجتماعية التي يفرزها اللاتعاطف (فيسبوك)

بعد الآلام المروّعة التي كابدتها الشعوب المتقدمة، أفرزت لها الوقائع نتيجة عملية مفادها: إذا تخلينا عن التسامح والاعتراف بالآخر فسيأكل بعضنا بعضًا، وبهذه الحالة لن نختلف عن حياة الضواري في الغابات، فما يجمعها هو الافتراس، ونغدو أسارى  لحالة "حرب الكل ضد الكل" حسب تعبير توماس هوبز. ومن الطبيعي جدًا في مجتمع يفتقر إلى حس التعاطف فمصيره الإحباط بلا شك. ذلك أن خطورة الإحباط تكمن في تحويل الأفراد إلى قطعان هائمة تبحث عن حصن يؤويها من مخاطر الافتراس. وفي مثل هذه الحالة تغدو الجماعة هي المأوى والملاذ في بلد تنعدم فيه النماذج لدرجة الصفر، وتكثر فيه الأقيسة المنطقية الفارغة، وتشيع فيه ظاهرة الجدل في القضايا الهامشية. يمكن أن نعتبر هذه الحالة المأساوية كعلامة بارزة لمجتمع فقد القدرة على التعاطف بشكل كبير، ولم يعد ينظر إلى هذه الحالة إلّا من حيث كونها تجريد مثالي. خصوصًا في مجتمع تتسيد فيه قيم الفحولة ويكرّسها في قضاياه المصيرية.

حينما يصاب المجتمع بعطب أخلاقي مزمن سينظر، بكل تأكيد، على أن أخلاقيات التضامن هي محض كماليات وليست ضروريات، علمًا أنه يطبقها ويستشعر بقيمتها، على نطاق محدود، مع أقرب الناس إليه. وعلى أي حال، سيغدو الأفراد، في مجتمع اللاتعاطف، أشخاصًا منبوذين يتصرفون على غير سجيتهم، يتماهون مع الظواهر والأشخاص بعيدًا عن ذواتهم الحقيقية، تعويضًا عن دونيتهم، التي أجبرهم على الشعور بها ذلك المجتمع الذي يتسم بالقسوة وعدم الإنصاف. وحينما تشيع مشاعر الأسى والأحباط وعدم احترام الذات، فستترجم لنا هذه الأحوال النفسية معاناة شديدة القسوة، وتتصدّر كل فعاليتنا السياسية والاجتماعية. وحين تترسب المعاناة في القاع فسيتحول كل منّا إلى "زومبي" يمتلك القدرة النافذة على نقل العدوى بين صفوف المجتمع بسرعة قياسية؛ ما إن يعضّ أحدهم حتى تنتقل عدواه للآخرين وهلمّ جرّا.

من ضمن الأعطاب الاجتماعية التي  يفرزها فقدان التعاطف، هو شيوع عمليات النبذ والإقصاء؛ الرجل الدميم الوجه لا يحظى بقيمة اجتماعية مميزة، والنساء كذلك، وبصورة أشد وأكثر قسوة، الرجل القصير أعلى مرتبة من الرجل الطويل، الأبيض أرقى من الأسود، الباكر أكثر قيمة من المطلقة، المنتمي إلى الجماعة أكثر قيمة من الفرد اللامنتمي، والأغلبية الطائفية هي الأكثر حظوة واعتبار من غيرها في الممارسة السياسية والاجتماعية. وسنفهم هذا الاعتبار بشكل واضح في الكرنفال الانتخابي وأي المرشحَين سيفوز: شيخ العشيرة أم البروفيسور؟! المهم في الأمر، أن هذه المعايير الزائفة، وبالخصوص في مجتمعنا العراقي المضطرب، تحدد مصير الناس وقيمة الاعتبار الاجتماعي الممنوح لهم؛ فمن يغرد خارج سرب هذه المعايير المجحفة فسيُجلَد بسوط اللاتعاطف، ما يعني المزيد من النبذ والإقصاء.

على سبيل المثال: إن كل من يموت من أجل قضية سياسية، لكنّها خارج سردية الأغلبية الطائفية والعشائرية، فهو ليس شهيدًا في عرفنا، ولا يستحق التعاطف بأي وجه من الوجوه، بل سيثير حفيظتنا وسيقلق ذاكرتنا المبنية على أسس تتسم بالقسوة والإجحاف، وآخر ما يداعب مخيلتنا هو ذلك التعاطف اللامشروط! المجتمع الذي يتسم بهذه المعايير لا يقيم وزنًا للمصير الذي ينتظر الأفراد المنبوذين؛ فهم خارجون عن ملّته الحنيفة، ولا يهمه الكم الهائل من الأمراض الاجتماعية التي ستسببها هذه القسوة والظلم. لا يهمه انعدام حرية التفكير والتعبير، لا يهمه كثرة النفاق الاجتماعي بسبب عمليات النبذ والإقصاء المستمرة، والتي ترغم الناس، بشكل وبآخر، على ما يكرهون ويحيلهم إلى كائنات منافقة، ما يجبرهم على التماهي مع أكثر من شخصية، ولعب أكثر من دور هامشي، وانتهاج أكثر من سلوك، كآليات دفاعية تخفف عنهم قسوة الاستبداد الاجتماعي، الذي يشطب مفردة التعاطف كليًا من قاموسه المليء بالاستبداد: العقوبات، الزجر، الرقابة، الإجبار، المنع، التهميش، الإقصاء، إلخ.. إن التعاطف يعني أن لا نتمنّى للآخرين أن تطالهم المعاناة، وأن نسعى جهد الإمكان للتخفيف من معاناتهم، وإن لم نستطع، فعلى الأقل أن لا نكون سببًا لمعاناتهم، ذلك إن المجتمع الذي لا يتعاطف مع أعضائه، فهو مجتمع يبيد نفسه بنفسه، ومن ثمّ ستتحول الناس إلى أداة طيعة بيد الطابور الخامس، وتتفشى في المجتمع المؤامرات الداخلية والخارجية، ويتسيّد الجهلاء واللصوص ناصية السياسية والمجتمع. غير أن هذا الكلام كلّه لا يقدم ولا يؤخر لمجتمع أعلن الحرب على نفسه منذ أمد طويل، ولنخبة سياسية لا زالت تصفّي حسابها مع هذا المجتمع، وتطلبنا بثأر لا نعرف له وجه معقول، فلا زال التعاطف كلمة يتيمة لا يتبنّاها قاموسنا الاجتماعي الذي ينهشه الاستبداد.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

رهانات مُستَعجَلَة

الخوف من المستقبل