29-أبريل-2020

ينظّم الشباب فرقًا في فيسبوك تُطارد من تعتبرهم مسيئين للقيم التي يتبنوها (فيسبوك)

بعد عقود من نظام الاستبداد، تعلّمت أجيالٌ عربية وتطبّعت مع الامتهان الذي يُمارسه أصغر رجل أمن في الدولة حتى الزعيم القائد، ومن مآسي هذه الأنظمة أنها نقلت هذه الثقافة إلى المستويات الشعبية، حيث تتلذذ شرائح مجتمعية بتعذيب بعضها البعض قولًا أو فعلًا، ويُدافع شطر من المجتمع على القمع الذي يستخدمه النظام، ويستخدمه هو ضد قرينه أو من هو أدنى منه. لقد أبدع الاستبداد حالة سادو/مازوشية داخل الشعوب الخاضعة تحت نيره. ومن هنا، اعتادت الأذهان على قراءة وسماع ومشاهدة صور الإهانة والتعذيب وعبورها وكأن شيئًا لم يكن.

يصطدم الآن، نموذج التعايش مع الإذلال وسلطة الزعيم الأب والقائد والرعية، الذي أفرزه استبداد الأنظمة التقليدية، مع تطلّعات جديدة لجيل من بنات وشباب لا يفتأون يرفضونها بطرقٍ متعددة

أطلق الانفتاح الذي شهدته المنطقة بفعل التطور التكنولوجي ضربات قوية لتلك العادات المنحطّة التي ناضل الاستبداد من أجل تثّبيتها. لم تَعد الأنظمة قادرة على نسخ الأجيال الجديدة عبر التعليم والإذاعة والتلفزيون الواحد على شكلها ووفق النمط الذي يُحافظ على هيمنتها. وشهدت المنطقة العربية ثورات كبيرة كان التطلّع للحرية والديمقراطية من أهم دوافعها، كما في أكبر دولة عربية.

اقرأ/ي أيضًا: رياح الحرية والقيم الراسخة.. هل مياهنا راكدة؟

في العراق، ومع الوقت، تزداد الهوّة بين ثقافة ومعايير الشباب الجديد وبين من سبقهم، الذين لم تُتَح لهم الفرصة المُتاحة لهذا الجيل، من الإطلاع المكثّف على طبيعة المعيشة في دول أخرى والتواصل فيما بينهم بسهولة وهامش حرية الفكر والتعبير والإعلام. وبالتالي، هوةٌ ـ وبنسبة أكبر ـ بين الشباب الجديد وبين الطبقة السياسية فاقدة المركزية في توجهها وآيديولوجيتها.

يصطدم الآن، نموذج التعايش مع الإذلال وإهانة الناس والقمع الوحشي وسلطة الزعيم الأب والقائد والرعية، الذي أفرزه استبداد الأنظمة التقليدية، مع تطلّعات جديدة لجيل من بنات وشباب لا يفتأون يرفضونها بطرقٍ متعددة ليس آخرها التظاهرات ــ وكما أن ثقافتهم لم تأتِ عبر الطرق المألوفة (المدرسة ومناهج التعليم وتلفزيون الدولة والتربية الأبوية .. إلخ) فأن أساليبهم المعاصرة في مقاومة القيم البالية تتخذ كذلك طرقًا غير مألوفة، في رفض ثقافات لم تكن مثيرة لسخط المجتمع فيما سبق، مثل ثقافة "البساطيل العسكرية"، وهي ثقافة متحالفة مع غياب القانون العادل في نظام مستبد كما قبل 2003 أو فوضوي كما بعدها.

فرق المطاردة الافتراضية

ينظّم الشباب الجديد فرقًا في فيسبوك تُطارد من تعتبرهم مسيئين للقيم التي يتبنوها، ونحن هنا أمام أمرين جديدين: طريقة غير مألوفة في الاعتراض، ومبادئ جديدة بالنسبة لنا هي محور الاعتراض.

تُطارد تلك الفرق الافتراضية مسؤوليين أو عساكر أهانوا مواطنًا، حالما وُجِد دليل أو انتشرت صور ومقاطع فيديوية للحادثة، وهي مطاردة غير محصورة بمنطقة أو قطّاع معيّن، من معلّم نينوى والمحافظ، إلى معتقل صلاح الدين والضابط، إلى مواطن الأنبار وضابط (البرمودة)، إلى معتقل النجف بتهمة التجاوز على الدين، وحملات الاعتراض على صور المتظاهرين المعتقلين والإساءة لرجال المرور والجنود الصغار من مرؤسيهم، وغيرها أمثلة لا تُعد. وفي الواقع، لا وتوجد باليد وسيلة مجتمعية تعبر عن تطلعاتهم غير المُطاردة الافتراضية. والمهم، هو فحص ردّات الفعل ذاتها، فهي تحمل ـ من وجهة نظرنا ـ ثقافةً ديمقراطية وتطلّعًا للحرية والكرامة الإنسانية بما لا يقبل الشك، إلا من الذي يريد الفحص مُطابِقًا لنموذجه الذهني، فالشعوب عادةً تُعبّر عن القيم النظرية المكتوبة بلغة عالية المستوى في الكتب، بطريقتها البسيطة العملية.

وإنْ تأمّلنا مثًالًا واحدًا فقط، هل يتخيل عراقيٌ قبل أقل من عقدين، أن يرى أو يقرأ أو يسمع اعتراضًا شعبيًا على ضابط أهان مواطنًا؟ ــ ظني أن تأمُّل المعاصرون للنظام للسابق في هذا الموضوع لا يُثير إلا ابتسامتهم الساخرة.

والمفرحُ في أصحاب هذه القيم الجديدة، وما يؤكد جدّيتها وعدم اقتصارها على حوادث تخص فئة (المواطنين)، التي تبدو في جذورها دفاعًا عن النفس، أنها وإذ تُدافع عن حرية المواطنين وكرامتهم، فهي تُدافع عن القيم ذاتها، فهي تنتفض لرجال الدولة حين يتعرضون للإساءة، وللمواطن المذنب حين تُهان كرامته، رغم أنهم ـ أي الجيل الجديد ـ تربّوا في ظل غياب دولة حقيقية.

نظّمت فرق الفتيات والفتيان حملات ضد (فنان) أساء لفظيًا لجنود أثناء الواجب، وضد مواطن هدد فريقًا طبيًا جاء لينقل أحد ذويه المصاب بفيروس كورونا، وضد مسؤول اعتدى رجال حمايته على رجل مرور، وضد نائبة ظهرت وهي تطلق العيارات النارية في السماء. دافعت عن ضابط البصرة الذي اعتقل معممًا وعاقبته الوزارة، واعترضت على ظهور معتقلين مذنبين برؤوس حليقة، أو تصويرهم أثناء اعتقالهم، فهذه الفرق تُميّز بين القانون والإساءة، وتُدافع عن جهاز الدولة الرسمي، وتتدخل بين الضابط ووزارته، والجندي وآمره، وهذه التمييزات هي هي الأسس البسيطة والعميقة في نفس الوقت، المطلوبة لبناء دولة مؤسسات حديثة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان.

ما فاعليتها؟

ربما يقول قائل إن هذه الحملات والمطاردات هي في نهاية المطاف شأنٌ افتراضي وستبقى محصورة في نطاقها غير المؤثر على الحياة العامّة.

حسنًا، لا نستطيع التنبؤ بمصيرها، وإن كانت هناك بعض التطورات الملموسة، والهدف الأول مما كُتِب هو الإشارة لمتبنيات حضارية يحملُها الشباب، بل أن بعضها ما كانت يومًا على أجندة الأجيال العراقية في عقود الاستبداد.

هل يتخيل عراقيٌ قبل أقل من عقدين، أن يرى أو يقرأ أو يسمع اعتراضًا شعبيًا على ضابط أهان مواطنًا؟

لناحية الفعل، فهي تفعل وفق قوانين العصر الجديد. ليست مواقع التواصل الاجتماعي موضوعًا ضمن الموضوعات كما تتناولها بعض برامج الإذاعات والفضائيات بعقلية القرن الماضي، بل هي المجال الرئيس الذي في داخلِه يُطرح الموضوع الاجتماعي. بالتالي، وبما أننا في فضاءٍ يجمع الجميع، لا يتمنى المرء أن يتعرض للسخرية والتنكيل والتشهير والإهانة من عشرات/مئات الآلاف من المدونين. ذلك على المستوى الاجتماعي، أما على المستوى السلطة أو الإدارة، فتُسارع أجهزة الدولة أو غير الدولة، المعنية بالحالة، إلى معالجة القضية المُثارة لتجنب المزيد من اللغط، وتُصدرُ بياناتها ووثائقها وأدلتها على وجه السرعة.

اقرأ/ي أيضًا: نضال التغيير ضد حماة "الأعراف المقدسة"

إن الخوفَ من "محاكم فيس بوك" وحده لا يُستهان به. يُمكن مقارنة مشاهد وتصرفات أرتال الحكوميين في الشوارع، وحجم ظاهرة توزيع المكرمات من قبل مسؤولين على المواطنين، ورشاوى المرشحين للناخبين، وصور توزيع رجال الدين والسلطة للطعام وغيره في المناسبات الدينية، يُمكن مقارنة الكثير من هذه المشاهد وغيرها الآن مع السنوات السابقة، إذا حفّزنا الذاكرة جيدًا.

 إن حملات افتراضية أفقدت ناطقًا عسكريًا باسم المسؤول التنفيذي الأعلى في الدولة السيطرة على نفسه، وأصبح مادةً للسخرية أثّرت على وسائل الإعلام بسبب افتراءاته وكذبه بخصوص التعامل مع المتظاهرين، لا يُستهان بها. وأن من يحاول التصدي لـ"الرأي الافتراضي" حتى لو بوسيلة قانونية، سيلاقي مصير النائب الذي حاول مقاضاة ناشط في محافظة المثنى.

لا يعني ذلك أن هذه المتبنيات ليست بحاجة إلى مؤسسات تنظيمية ومجاميع ضاغطة على الأرض تؤثر بشكلٍ أكبر على الواقع، لا تبدأ ـ على سبيل المثال ـ بفرق ناشطين ومحامين يتابعون القضايا المُثارة من قبل الفرق الافتراضية، ولا تنتهي بأحزاب ناشئة تتبنى القيم الجديدة، خاصةً مع غياب هذه "الأخلاقيات" عن الفئات المنظمة التقليدية في جهاز الدولة وخارجه، كالمنظومة السياسية والتربوية والدينية.

مرة أخرى، إن المنظومة القيمية تحملُ مفاهيم ديمقراطية في الأسفل، لكنها فارغة من الديمقراطية في الأعلى، والخوف كل الخوف هو أن يتسبب الفساد، السياسي والإداري والمالي والأخلاقي، بمسخ هذه الأجيال وتحويلها إلى نقيض للطبقة الحاكمة لكن بذات الانحراف. والحلول الشعبية والنخبوية للوضع السياسي، المطروحة دائمًا في بلداننا، والتي تدور حول السحل و"التعليكـَ بالعواميد"، تُمثّل أرضية خطيرة لإمكانية الانمساخ.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بعد فشل التوافق وتشويه التكنوقراط.. نحو انقسام صحي

في انتظار السياسة