01-سبتمبر-2020

الناس لا تفرق بين الدين وبين الأحزاب الدينية (Getty)

"ابتلي شعبنا العراقي المسلم بسلسلة من الحكومات التي تعاقبت على حكمه والتي مارست سياساتها على اسس تتنافى من حيث المبدأ والأهداف والوسائل مع الأسس الإسلامية على كل الأصعدة، مما عرض الشعب العراقي إلى المزيد من المشاكل والمحن تاركةً آثارها على كل مرفق من مرافق الحياة، حتى وصلت غايتها من التردي والانحطاط وذروتها من التجاوز على إرادة الشعب في ظل نظام صدام حسين"، مقدمة بيان حزب الدعوة، آذار/مارس 1991.

من السهل التعرف على طبيعة التنظيمات السياسية انطلاقًا من الإطار العام الذي تتخذه نقطة شروع في عملها السياسي. فالهيكلية الأساسية، مثلًا، للأحزاب الماركسية قائمة على العدالة الاجتماعية واقتصاد اشتراكي يميل إلى تركيز الاقتصاد بيد الدولة، وبالطبع هناك من يجمع بين الأثنين كالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. والأحزاب الديمقراطية الليبرالية تستند هيكليتها العامة، التي تحدد برنامجها، على نظام سياسي قائم على الفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات، وتقديس الحريات الفردية، واقتصاد ذي توجه رأسمالي قائم على التملك الخاص. وهكذا كل حزب يحدد هويته طبيعة البرنامج الذي يتمسك به والشعار الذي يتخذه. والموضوع لا يحتاج إلى عدّة تحليلية معقّدة، فهوية الحزب تحدد سماته الخاصة، أي الأيديولوجيا التي تحدد معالم الحزب. إلا أنه من العسير للغاية الاهتداء إلى سمات محددة تكشف هوية التنظيمات الإسلامية؛ أعني برنامجها السياسي والاقتصادي، وكيفية إدارتها للحكم. بعبارة موجزة: ما هو النظام السياسي والاقتصادي الذي ترتكز عليه هذه التنظيمات. فهي لحد الآن تتأرجح بين أيديولوجيا إسلامية غامضة ومضطربة، وبين نزوع شديد للسلطة حتى لو خالف شعاراتها.

لو فتشنا في برامج الأحزاب الإسلامية لا نعثر على تفاصيل فقهية تحدد برنامجهم السياسي باستثناء الشعارات العامة التي تتخذ من الإسلام كإطار عام لعملها السياسي

 وعلى الرغم من العبارة الشهيرة "أنهم لا يمثلون الإسلام"، غير أن هذه التنظيمات لا زالت تتمتع بحظوة ملكية في اقتسام المغانم. صحيح أنها بمرور الزمن تفقد شعبيتها وتفضح زيفها بنفسها، بيد أن المؤسسة الدينية، في العراق خصوصًا، لا تتدخل في كشف الملابسات حول هذه التنظيمات، لاعتبارات خاصة ألزمت حوزة النجف نفسها على أساسها، ومنها أن المرجعية الدينية في العراق لا تتدخل بنحو مباشر إلا من باب النصح والإرشاد. في حين تتذرع هذه التنظيمات بالتمسك بالمرجعية، إلا أن سلوكها العام لا يوحي بذلك على الإطلاق. ومن جهة أخرى لا نجد معارضة مباشرة وفعلية من قبل الجماهير المؤمنة سوى تذمر وسخط لا يترجم نفسه إلى معارضة سياسية منظمة، إذ يكفي هذه الجماهير عبارة" إنهم لا يمثلون الإسلام" كما أسلفنا. وإن تصدّى جمهور آخر للعب دور المعارضة فستنتفض الجماهير المؤمنة لإسقاط هذا الجمهور المعارض، وتهمة "العلمانية" ستكون في الواجهة، لأنه المفهوم الأكثر شيطنة في تاريخنا السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: رهانات السلطة الخاسرة

على أي حال، ماذا يمكن للتنظيمات الإسلامية أن تقدمه كنموذج موازٍ للدولة الحديثة؟ هل يمكنها أن تقدم نماذج نظرية لتفسير الواقع السياسي، هل يمكنها التنظير لعقد اجتماعي يحدد الأطر العامة للحكام والمحكومين، ترى ماهي برامجها السياسية والاقتصادية التي ترتبط بالنصوص الإسلامية، ما الفرق بين تنظيم إسلامي وتنظيم غير إسلامي؟ هذه الأسئلة وغيرها لا تثير فضول التنظيمات الإسلامية ولا تندرج في سلم الأولويات، ولا تشكل الهم الأقصى لهؤلاء. ثم يتساءل المرء مرة أخرى، ماذا يعني حزب إسلامي؟ لو فتشنا في برامج الأحزاب الإسلامية لا نعثر على تفاصيل فقهية تحدد برنامجهم السياسي باستثناء الشعارات العامة التي تتخذ من الإسلام كإطار عام لعملها السياسي، والحقائق الملموسة تكذب هذا الادعاء؛ فلا السلطة التنفيذية ولا التشريعية ولا القضائية تحتكم بأصول الشريعة الإسلامية ما عدا قانون الأحوال الشخصية. إن الدولة العراقية بهياكلها الإدارية والقانونية، وبسياستها الداخلية والخارجية، لا تحتكم لشريعة الإسلام، ذلك أن الدولة بجميع تفاصيلها تخضع للتشريعات المدنية الغربية. وإن عثرنا على تشريعات ترتبط بفقه المعاملات في برنامج الأحزاب الإسلامية فهذا يدينها ولا يقف لصالحها، لأنه سيضيف إشكالية أخرى عن مدى تطبيق هذه الأحكام في ممارستها السياسية وفيما يتعلق خصوصًا في إدارتها لمؤسسات الدولة.

 أن يكون تنظيمًا إسلاميًا معنى هذا أنه يؤمن بوجود دولة إسلامية، اللهم إلّا إذا كان المعنى غير ذلك؛ كأن يكون تنظيمًا إسلاميًا، غير أنه يؤمن بالدولة الحديثة، لكن يبقى السؤال نفسه: ماذا يعني تنظيمًا إسلاميًا؟! قد يعني أن السلطة التشريعية تدار من قبل الفقهاء يكون على عاتقهم سن التشريعات التي تتوافق مع التشريع الإسلامي، أو يكتفون بالدستور كإطار عام يحدد هوية الدولة الإسلامية، ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت الشريعة، فبهذا يتضح تعريف التنظيمات الإسلامية: إنها تنظيمات تحتكم إلى دستور لا يتعارض مع ثوابت الإسلام. وبهذه المقدمة يكن تعريف الدولة العراقية: هياكل إدارية علمانية، وبعض التشريعات الإسلامية! بعبارة أخرى، دولة ذات شكل علماني ومضمون إسلامي عام.

ربما تعمل هذه التنظيمات ضمن القاعدة الفقهية "الضرورات تبيح المحظورات" بالاعتماد على مرجعية الحزب الدينية. لكن تطبيق هذه القاعدة لشرعنة الممارسة السياسية في ظل دولة علمانية، على سبيل المثال، هي لا تختلف عن الحيلة الشرعية بشيء! بل شرعنة واسعة النطاق للفساد والإفساد، والإمعان بالزيف والغموض. ولا أعني أصل القاعدة الفقهية من حيث الجوهر، بل طريقة توظيفها أن صح ذلك. فالمسؤوليات الجسام تقتضي على هذه التنظيمات أن تفصح عن نفسها بشكل واضح. لقد قبلت هذه التنظيمات بالديمقراطية، على سبيل المثال، لا لإيمانها العميق بالتداول السلمي للسلطة، أو الانتخابات الحرة، بل قبلت بذلك لأن الديمقراطية ستقف مع الأغلبية الطائفية بشهادة فالح عبد الجبار في كتابه "العمامة والأفندي"، وهذا يعني أنها لا تؤمن بالديمقراطية على الإطلاق.

باستثناء الفقرة المثبتة في الدستور العراقي التي توازن بين ثوابت الشريعة وأسس الديمقراطية، وإن الإسلام أحد مصادر التشريع، فهذا الأمر لا يحسب لهذه الأحزاب، لأن التشريع الإسلامي حاضر في القانون المدني العراقي قبل وجود التنظيمات الإسلامية. ولحد الآن تبدو الوظيفة الشرعية لهذه التنظيمات الإسلامية غامضة ومضطربة؛ تتأرجح بين الدين والدنيا، والثانية أقرب للواقع وتصدقها الكثير من الشواهد. ويمكن الوصول إلى خلاصة مفادها: إن هذه التنظيمات السياسية دنيوية قلبًا وقالبًا، أي أنها تجري مجرى التنظيمات العلمانية في إدارة شؤون الحكم. فكل تمايز تسعى إليه هذه التنظيمات الإسلامية محاولةً الفصل بينها وبين التنظيمات العلمانية فهو محض تجريد وادعاء ومزايدة لا جدوى منها.

 الناس لا تفرق بين الدين وبين الأحزاب الدينية، طالما ترفع هذه الأحزاب شعار الدين

وحينما نصفها بالدنيوية فهي ليست شتيمة، وإنما الشتيمة الحقيقية حينما نتلبس لبوس الدين على طريقة التجار والمرابين. إن الأحزاب العلمانية حينما تفشل في بناء الدولة وتحقيق مطالب المواطنين، فسيقال عنها أحزاب علمانية فاشلة، في حين لو حدث أمر مماثل للأحزاب الإسلامية، فسيقال عنها أحزاب إسلامية فاشلة في إدارة الدولة وأثبتت للناس أن الدين لا يمكنه أن يتحول إلى شعار بيد الأحزاب، وستتسع رقعة المتذمرين من الدين! بمعنى أن الناس لا تفرق بين الدين وبين الأحزاب الدينية، طالما ترفع هذه الأحزاب شعار الدين، وطالما يتبعها جمهور غفير من المؤمنين. ويبدو أن اليهود أكثر دهاءً يوم اختاروا أحزابًا علمانية تحكمهم فيما ظلت الديانة اليهودية متجذرة في وجدانهم حد التعصب! إن كيان "إسرائيل" دويلة ذات شعار ديني متعصب ومؤسسات وأحزاب علمانية. ويمكن تلافي أي خراب محتمل في المستقبل، أن تظهر تنظيمات ذات برامج واضحة تصحح كل هذه الفوضى وتعيد النظر وتدرس أهم التحديات التي يواجهها السياسيون الشيعة على وجه الخصوص، ومنها الموت بوصفه خطة عمل مستمرة للتنظيمات الشيعية الإسلامية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

داعش الوظيفي!

في التضامن السياسي