14-سبتمبر-2020

تحولت مدينة الصدر إلى مسرح انتخابي كبير (Getty)

تعلمت الكثير من أسرار العذاب البشري لأني ولدت في الأحياء الفقيرة. ومنذ أكثر من عقد غادرت مدينة الصدر ولم يبقَ هناك سوى أهلي وأقاربي وحزمة كثيفة من الذكريات المؤلمة. غير أن هذه الذكريات أضحت جسرًا تخطيت من خلاله ماضي الألم والحرمان. استهلكت معظم حياتي وأنا أرمم الذات بدلًا من الواقع كآلية للتعويض. ومن يفشل في بناء الواقع يبتلى بدوامة من أحلام اليقظة، وانا أحد هؤلاء الفقراء الذين نسجوا في مخيلتهم آلاف السرديات المزيفة للبقاء على قيد الحياة. كان هنالك شيء ما يضغط على وجداني ويخبرني ثمّة خطأ ما عليك أن تتداركه، لكي لا تبتلعك الأوهام وتحيلك إلى شيء منسي، لا يختلف عن الخردة الرخيصة المتكومة في سوق "مريدي".

 زَهَدَ الفقراء في العيش الرغيد، وزهد السياسيون من كل أشكال الشرف والنبل الأخلاقي، فكانت نتيجتها أحياء فقيرة محطمة، كمدينة الصدر

 كلما أتسكّع في أزقتها الخربة وأتطلع إلى بيوتها الغارقة برطوبة المياه الجوفية، والقطع السوداء المعلقة على واجهاتها التي تحمل عبارة "الشهيد السعيد"،  تقفز إلى ذاكرتي أيام الحرب العراقية الإيرانية الكئيبة والموحشة، يوم كانت النساء شبه عاريات يتسارعن بحركات هستيرية يعلوها الصراخ والعويل  لفتح غطاء التابوت وإقامة طقوس الوداع الأخير لـ"الشهيد البطل". كنت أشاهد من فوق السطوح وجوه الموتى النائمين في توابيتهم الخشبية؛ وجه مطرّز بنياشين الشظايا، جثة بلا رأس، أوصال ممزقة ملفوفة بكيس نايلون تغطي فيض الدماء، وجه باسم متصالح مع مثواه الأخير! زوجات بصدور دامية ووجوه كما لو أنها مزقتها مخالب نمور جائعة، أمهات تحدق وجوههنّ في الفراغ أعياهنّ الصراخ والنحيب تتمتم بكلمات غامضة، رجال ملثمون يتبادلون الشتائم واللعنات سرًا ضد الحزب والثورة، أطفال تلبّسهم الذعر يحدقون بوجوه ذويهم، حشود من الناس يجلسون على الأرض، متكئون على جدران البيوت، يلتهمون السجائر، وحشود من المعزين يتراكضون من بداية الزقاق للتعرف على هوية الشهيد.

اقرأ/ي أيضًا: مدن العشوائيات "المقدّسة"

 من أعظم المنعطفات التي شهدتها هذه المدينة هي استبدال صفة الشهيد من "البطل" إلى "السعيد"، وما بين البطولة والسعادة تكمن سردية مخيفة تتضمن آلاف الحكايات وآلاف الأبطال. وحتى هذه اللحظة لم نعثر على صيغة دلالية واضحة عن معنى البطولة والسعادة في معجم المدينة المنكوبة. المكرمة الوحيدة التي حظي بها ضحايا المدينة هو صورهم المنتشرة في الأزقة والطرقات والشوارع العامة. وما عدا ذلك، فحسابهم على الله، أو مرتب شهري بسيط كعربون لوفاء الشهيد! الله نقطة الوصل وسلوة العزاء الوحيدة للعتالين، والباعة المتجولين، وبائعي الخضار، وذوي الشهداء، أما السياسيون فقد تركوا الله يوم اكتشفوا أن الأنبياء والرسل لم يحلموا بكل هذا العيش الرغيد. الله هو النقطة المرجعية الوحيدة التي تلهم هؤلاء المحرومين البطولة والسعادة، أما نواب البرلمان فقد وجدوها في المصايف والفنادق، وشوارع بيروت، وأسطنبول، وإقليم كردستان، وعواصم أوروبا. لقد تجلى الله في قلوب المعدمين على شكل أجر يومي، وعربة حصان، أو سيارة أجرة رخيصة، وبيت آيل للسقوط، وتجلى في قلوب النواب على شكل ليلة حمراء في هذه العواصم. زَهَدَ الفقراء في العيش الرغيد، وزهد السياسيون من كل أشكال الشرف والنبل الأخلاقي، فكانت نتيجتها أحياء فقيرة محطمة، كمدينة الصدر، وسكّان مقتنعون، ونواب يحترفون الانحطاط بمستويات لم يحلم بها سياسي قط. ومن يرغب في مشهد مجاني لمسرحية البطولة والسعادة فليذهب إلى مدينة الصدر وما يشبهها من أحياء سكنية كثيرة ولله الحمد.

حينما يتشابه الماضي والحاضر لم يعد لتلك الذكريات معنى؛ ثمّة حاضر رهيب ومقبض حل على هذه المدينة وأحالها إلى مسرح للموت والشهادة. أتطلع من نافذة السيارة لصور الشهداء المعلقة بأعمدة طويلة بانتظام على الطريق السريع، وتمر علي كشريط سينمائي سريع، كلها تحمل ذات الهوية القديمة: "الغرّاوي "،"الساعدي"، "الكعبي"، "الأزيرجاوي"، "الدراجي"، "المحمداوي"، "اللامي"، "العتّابي" "الموسوي".. ذات الأسماء، ذات الألقاب، كما لو أنهم عادوا للحياة  وماتوا مرة أخرى! ذات الأرامل والأيتام يجددون عهدهم بالمصير المجهول. تتسابق الأعداد لتسجيل قصب السبق في قطار الموت السريع حبًا وتفانيًا لمن يوالون. أصبحت هذه المدينة بوابة الموت والفوهة الواسعة لكل مدن الجنوب. يكفي أن يموت أحدهم ليعلن عشرات الأقارب في مدن الجنوب حزنها الأبدي. لقد شكّلت هذه المدينة نموذجًا مصغرًا يروي قصة الجنوبي الذي عاش غريبًا في وطنه ومغدورًا من أقرب المقربين. فمن فلاح تحت رحمة الإقطاعي البغيض، ومرورًا بعامل البناء، إلى شرطي، فشهيد بطل وسعيد!

تحولت هذه المدينة لاحقًا إلى مسرح انتخابي كبير، وسوق استهلاكية واسعة، يتراكض فيها المرشحون للفوز بأصوات عشائرهم. وقد أثبت المرشحون قدرتهم التنظيمية البارعة لحشد الفقراء وتملقهم، في حين لم ينجحوا بترميم فتحات المجاري والماء الصالح للشرب. وعلى الرغم من كل ما بذلوه سكّان المدينة المعذبة، كانت حصتهم من التهكم والتندر والاحتقار كبيرة لدرجة أنهم يتعايشون معها كما لو أنها عبارات من الإطراء والمديح. وأصبحت عبارة "شرق القناة" إشارة للتسافل الطبقي والانحطاط المجتمعي لدى المترفين.

 لقد انشغل المحافظون في هذه المدينة المغضوب عليها بالتهجم والشتائم على كل من يعارض هذه السلطة، واختاروا التذمر على الحكومة في وسائط النقل العامة، والمقاهي، ومجالس العزاء. لم يحركهم كل هذا التاريخ الدامي، ولم تشحذ ذاكرتهم كل هذه الحشود التي أعطت أرواحها ثمنًا للوطن، ذلك الوطن الذي أمعن في غربتهم، ولم يحاسبوا مرشحيهم حتى هذه اللحظة، بل لم يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: لماذا نموت ويعيش السياسيون، لماذا ننتخبهم ويمعنون باحتقارنا؟ لا أعلم كم عدد النواب الذين ينحدرون من مدينة الصدر، لكني أعلم أن بعض النواب ترجع أصولهم إلى هذه المدينة. ولا أريد الدخول في التفاصيل، فسيجابهني سيل عارم من التبريرات، تبريرات ليست من النواب، فآخر هموم هؤلاء هو التدخل في القضايا المصيرية، بل سيتدافع أبناء المدينة أنفسهم ويقفون صفًا واحدًا، كما لو أنهم ينتظرون أنواط الشجاعة، للتبرير والدفاع عن ممثليهم. وظيفة الناخبين واحدة: أن ينتخبوا ممثليهم، ثم يجلسون في بيوتهم يندبون حظهم العاثر. في إحدى الصدف التي لا تتكرر لأناس أمثالي، حظيت بمحاورة مع أحد موظفي السلطة، وكان متحمسًا للغاية ليثبت لي أن البرلمانيين مكبّلين بقيود كبيرة، وأن السلطة لها أكثر من مركز قرار، وإننا لا نستطيع الشروع بأعمال كبيرة تنعكس على المواطنين. كان هذا الموظف سعيد ومستمتع لأنه أخلى ضميره تمامًا من أي عتاب محتمل، وقد تصالح مع نفسه لدرجة أنه يستلم مرتبه الشهري ويطعم أطفاله ويسافر في فصل الصيف للتخفيف عن متاعب السلطة. وهذا الموظف لا يختلف بشيء عن النواب الذين ينحدرون من المناطق الشعبية، فهم أيضًا تصالحوا مع الواقع وامتنعوا عن طرح الأسئلة الكبرى، فالله أولى بالفقراء.

تحولت مدينة الصدر إلى مسرح انتخابي كبير، وسوق استهلاكية واسعة، يتراكض فيها المرشحون للفوز بأصوات عشائرهم

 المهم في الأمر أن الدنيا بخير في مدينة الصدر؛ فالولائم، والطقوس، والزيارات، والانتماء العشائري، والجهل، والأمية، وقوافل الشهداء، والمعارك العشائرية والنارجيلة المنتشرة في الجزرات الوسطية كما العشب البري، وأكداس النفايات وروائحها المتوزعة بعدالة فائقة قرب الأزقة الضيقة، وعمال المزابل النشطين، وروائح المياه الثقيلة التي تزكّم الأنوف، وأسواق الخردة والملابس المستعملة، والوجوه المتعبة والمتفحمة من حر الصيف وهي تتفحص وجوه المارة في "مسطر" عمّال البناء، والأسواق العشوائية، والمستشفيات المحطمة، والشوارع المزدحمة، وعربات الحمير والخيول، وسوق الأغنام والأبقار، وأحشاء الذبائح المعروضة في السوق وروائحها التي تتنافس مع روائح الموتى، وجيوش الأرامل واليتامى، وقوافل الشهداء المستمرة. كل هذا وغيره هيّن وبسيط، بل جميل وملهم! المهم هو الفداء للوطن، الفداء للسلطة، كل شيء يهون من أجل الولاء، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

يسألونك عن الفقراء في العراق

كم عدد سكّان العشوائيات في العراق؟