07-مايو-2019

الهوية الوطنية اختراق مخيف لمطامح هذه الإقطاعيات (Getty)

المصالح الاقتصادية تجمع الناس في البلد الواحد، وقد تعزز حالة الشعور بالانتماء، وترسّخ حالة الاعتزاز بالهوية الوطنية. غير أنّ التوقف على المصالح الاقتصادية فحسب قد يحوّل الوطن إلى مكان للمنتفعين والانتهازيين، أو شركة كبرى، في أحسن حالاته، تشتري ولاء الناس من خلال صعود طبقة معينة تهيمن على مقدرات البلد، فنشهد طبقية حادّة: طبقة ثرية ومرفّهة تتحكم بالقرار السياسي والاقتصادي، تقابلها طبقة معدومة دائمًا ما تقع ضحية الحروب العبثية والإفقار والجهل ومسخ الهوية الوطنية.

التوقف على المصالح الاقتصادية فحسب قد يحوّل الوطن إلى مكان للمنتفعين والانتهازيين أو شركة كبرى

 في مثل هذا الحال تظهر طبقات طفيلية وإقطاعيات سياسية تدير البلد باسم العائلة أو القبيلة، فيقسّم البلد بين عائلة "فلان وعلّان"، وتفشل كل المساعي الجادّة لترسيخ الهوية الوطنية، ذلك إن الهوية الوطنية اختراق مخيف لمطامح هذه الإقطاعيات، بل هي على استعداد لبيع البلد من شماله إلى جنوبه مقابل مصالحها الشخصية. وهذا ما يحصل في العراق وباقي الأقطار العربية: المزيد من الطائفية والفئوية، والاختلاسات والإهدار في الإنفاق العام للدولة، نسبة كبيرة من قوت الشعب تذهب لتسديد الديون وتعويض ما سرقه اللصوص. أما الوطن فيتمزق إلى أشلاء حسب عدد الإقطاعيات المتواجدة فيه، وتقاس على عدد الطوائف والقبائل: آل فلان، آل علّان.. ويتحول مفهوم "الأغلبية" إلى هيمنة هوية فرعية على المشهد السياسي، وتغدو الهوية الوطنية الجامعة مفهومًا تجريديًا لا وجود له في الواقع.

اقرأ/ي أيضًا: حينما نتآمر على أنفسنا

الملفت في هذا الأمر، أن هذه الطبقة المشبوهة دائمًا ما يكون ولائها للخارج، وترتبط بقوى إقليمية ودولية، وهي لا تتوانى بتقديم خدماتها وبيع الوطن متى ما شاء المحتل؛ كان بعض كبار رؤساء العشائر في العراق، كما يذكر حنّا بطاطو، أدوات طيّعة بيد الانكليز لإضعاف سلطة الملك فيما لو حاول الخروج عن الخط المرسوم. فعندما أخذ الملك فيصل على نفسه عام 1922، يقول حنا بطاطو، أن يعمل لهزيمة مشروع "الانتداب" البريطاني على العراق، قام الشيخ عدّاي الجريان من البوسلطان، ومعه خمسة عشر شيخًا آخر من شط الحلة، بالاحتجاج على الملك، وأرسلوا برقية إلى المندوب السامي تعلن "الدعم لمشروعه المفيد الذي من دونه لا يمكن للعراق وأبناءه أن يحققوا التقدم" وقد أعلن مشايخ بني ربيعة تذمّرهم وأنهم ينظرون" باشمئزاز حقيقي إلى احتمال سحب الإشراف البريطاني". بل أكثر من ذلك، فقد زاد علي سليمان، من عشيرة الدليم، ومعه أربعون رئيس عشيرة آخرون، صارحوا الملك فيصل في لقاء معه، بكل صلافة ومن دون أدنى خجل "بأنّهم أقسموا على الولاء له شرط أن يقبل بالتوجه البريطاني".

نجد اليوم من أبناء جلدتنا حوّلوا الاعتزاز القومي إلى شتيمة، والدفاع عن وجودنا التاريخي كأمّة عريقة أوهام" قومجية"

والحقيقة حينما نربط أحداث التاريخ، وهي ليست بعيدة، فسنرى في لحظتنا المعاصرة أشباح الأسلاف تحضر بقوة في الراهن السياسي العراقي!: جماعات تهدد بالعنف فيما لو تعرّضت الجارة إيران إلى مكروه، وجماعات تدين بالولاء للجارة تركيا. إنّهم يقّلبون ماضيهم ويأخذهم الحنين للطربوش العثماني، ويحلمون بإمكانية استعادة شبح "الباشا" من جديد، وجماعات تتخذ من"الحلم" الأمريكي نقطة انطلاق للمستقبل. هذه الجماعات مستعدة، كأسلافهم الذين مرّ ذكرهم، وهي في أهبة الاستعداد لبيع الوطن بالمجان مقابل امتيازاتهم الشخصية. إنّهم يستبسلون لتحطيم آخر ما تبقّى من الهوية الوطنية، ويمتعضون من فكرة المواطنة، لأنّها تعني بروز الهوية الجامعة للعراقيين، ويعني استعادة البلد لأرثه الحضاري العظيم، فكيف يعقل أن تستريح ضمائرهم، وهم لا زالوا حتى هذه اللحظة يشعرون بالعار من تاريخ بغداد العباسي، لكن، من ناحية أخرى، لا توجد لديهم مشكلة في شوارع لندن.

تميل البلدان ذات التاريخ الحضاري العريق للالتصاق بهويتها الحضارية حد التوحّد في هويتها الحضارية، إنه اعتزاز يسري فيهم مسرى الدم في العروق. يذكر الراحل هادي العلوي ما مضمونه، إنّك لا تحتاج للبحث في تاريخ الصين حينما تعاشرهم، فتاريخهم حاضر في فعالياتهم الاجتماعية. وعلى أي حال إن البلدان ذات العمق الحضاري تعتز كثيراً بموروثها وتضيف عليه ما يخدمه ويطوره، مثلما فعلت البلدان الآسيوية وعلى رأسهم العملاق الصيني. والصينيون أكثر الناس اعتزازًا بقوميتهم؛ فدائمًا ما يثوّرون البعد القومي في نزاعهم الحدودي في بحر الصين الجنوبي حول الجزر المتنازع عليها مع اليابان، ليحتشد ملايين الصينيين للمطالبة بحقهم القومي في هذه الجزر.

بينما نجد اليوم من أبناء جلدتنا حوّلوا الاعتزاز القومي إلى شتيمة، والدفاع عن وجودنا التاريخي كأمّة عريقة أوهام" قومجية. وباتت كلمة "عربي"  تعني في عرفهم المخلوط أن تسخر من كل ماهو عربي، تصور معي أن تتحول هويتك القومية إلى مسخرة بين الأجيال الجديدة، حتى لو كانت تجهل تاريخها بالمرّة!.

حينما نربط أحداث التاريخ سنرى في لحظتنا المعاصرة أشباح الأسلاف تحضر بقوة وهي في أهبة الاستعداد لبيع الوطن بالمجان مقابل امتيازاتهم الشخصية

في كتابه "النظام العالمي" يثني هنري كيسنجر على الحضارة الفارسية لأنها استفادت من ثقافتين: الثقافة الفارسية والثقافة الإسلامية لتكون دولة متماسكة وغنية وذات تقاليد عريقة. وبالطبع لم يسجل كيسنجر علامة مميزة للمنطقة العربية باستثناء شخص أنور السادات فيما يتعلق باتفاقية كامب ديفيد!. ومن أسوأ الأقدار التي تؤشر لنا على سقوط النموذج لأقصى القاع، أن يتم الثناء على أنور السادات. أن يجري تقيّمنا من قبل القوّة المهينة ضمن معيار الانهزامية واتفاقيات السلام الزائفة!. اتفاقيات السلام التي تعني: علي أن أمضي بمشروع الاستيطان إلى أبعد حد، وعليك أن تمضي للسلام إلى أبعد حد، لكي تبقى لك هوية مزيفة، هوية بلا جغرافية!. أو تكون الهوية على الطريقة العراقية، هوية بثلاثة وجوه: شيعية سنية كردية، وبعدها نبحث عن العراق فلا نجد له مكان بين الأمم إن بقيت هذه الإقطاعيات تتحكم في مصير العراق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

استدعاء الدكتاتور صدام حسين.. الحاجة إلى البطل!

الحطام العراقي المقدّس.. المزارات الوهمية أنموذجًا