13-أكتوبر-2019

يخنق خط الفقر الديوانية التي تقبع كثالث مدينة من حيث عدد شهداء وجرحى الاحتجاجات

لا أعرف من أين أبدأ في سرد الفجائع والمآسي التي حلت بمدينتي الديوانية خلال تظاهرات تشرين الأول/أكتوبر الأخيرة، والتي انطلقت من رحم الفقر والحرمان وضياع الوطن، نتيجة لتسلط الفاسدين على رقاب أبنائه لذلك كانت الاحتجاجات تطالب باجتثاث الفساد من جذوره.

 كنتُ شاهدًا على ما حل بأبناء مدينتي طوال مدة التظاهرات،كانوا يحملون قصص متشابهة ولأنهم كذلك فقد كانت طريقة موتهم متشابهة هي الأخرى

يدور في رأسي نص لأحد الشعراء يناجي فيه الله ليهبه جملة البداية "أعطني الجملة الأولى؛ لأنقل دلاء الرمّاد إلى هذه الورقة دلوًا دلوا".

اقرأ/ي أيضًا: شباب العراق يعزلون عزلته

لقد كنتُ شاهدًا على ما حل بأبناء مدينتي طوال مدة التظاهرات، أوثق لحظات قمعهم، حيث هُشمت رؤوسهم بالرصاص الحي، وخنقهم الغاز المسيل للدموع والذي كان يطلق بكثافة عالية، استمعت إلى صرخاتهم ونشيجهم المختنق، لقد كانوا يحملون قصص متشابهة ولأنهم كذلك فقد كانت طريقة موتهم متشابهة هي الأخرى، من بينهم "أمجد مالك" الذي أصابته الرصاصة في منتصف جبهته ليفارق الحياة على الفور.

 أمجد، شاب في مقتبل العمر من مواليد 2000، له عربة صغيرة لبيع الشاي في سوق العروبة يعيل منها أسرته، تطاردها فرق البلدية من مكان إلى آخر، فقد "تجاوز" على أرض الوطن التي ليس له فيها شبر واحد. رحل أمجد وترك عربته منصة لإعلان موته في قطعة سوداء سبق اسمه فيها جملة (شهيد المظاهرات ضد الفاسدين).

متظاهر آخر له من العمر 17 عامًا، كان شجاعًا بما يكفي ليقف بوجه قوة من "سوات"، عار الصدر، دفاعًا عن عشرات المحتجين بعد مواجهتهم بالرصاص، ردوا على صراخته بقذيفة غاز  في رأسه، ثم تركوه يسبح في دمه.

ليس بعيدًا كان أمير الصالحي، الجندي الذي قاتل "داعش" ببسالة والمتظاهر المطالب بحياة أفضل، يردد اسم طفله "مهدي" وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد أن تلقى رصاصة في الرأس.

قصص مئات الجرحى لم تكن تختلف كثيرًا، ترويها حسرات أمهاتهم وعوائلهم، فمنهم من قد لا يفيق أبدًا، كـ "علي" الذي انتشرت القطع الحديدية في رأسه بعد إصابته بـ "طشارية صجم" هشمت وجهه وكسرت أسنانه وفقأت عينه اليمنى.

هذا غيض من فيض وقليل من النزف على ما حل بأبناء هذه المدينة يخنقها خط الفقر وتقبع كثالث مدينة من حيث عدد شهداء وجرحى الاحتجاجات بعد بغداد والناصرية، وفق إحصائية مفوضية حقوق الإنسان، وهي إحصائية غير تامة الدقة على أية حال، وفق شهادات طبية.

الكاميرا.. أوالرصاصة

خلال تظاهرات الديوانية تم قمع جميع الإعلاميين باستثناء إعلام السلطة بالتأكيد، فقد كانوا يخشون الكاميرات أكثر من أي شيء، لا يريدون لجرائمهم أن توثق ويتداولها الناس، لذلك وضعوا فوهات بنادقهم في رؤوس المصورين وخيروهم بين الكاميرا أو تهشيم جماجمهم. تعرض بعض الصحفيين إلى الضرب المبرح بالعصي الكهربائية وغيرها، بعضهم هدد وآخر اعتقل، أما من يقوم بالتصوير عن طريق هاتفه النقال فمصيره الاعتقال بعد تحيطم هاتفه.

العرق "يشي" بالمتظاهرين!

من أغرب المواقف التي شاهدتها خلال تظاهرات الديوانية، نصب نقطة تفتيش في سوق العروبة كانت مهمتها فرز المتعرقين من الشباب كدليل على مشاركتهم في الاحتجاجات ليتم اعتقالهم، ولطالما سمعت الضابط يصرخ بالجنود "لا تخلي أي واحد عركَان يعبر".

يضاف إلى تلك المواقف الغريبة أن الجرحى في تظاهرات الديوانية لا يذهبون إلى المستشفيات خشية الاعتقال، بعد أن اعتقل عدد كبير من الجرحى ومرافقيهم من مستشفى الديوانية، فما إن يسقط أحد الجرحى حتى يرتفع صوت أخوته المتظاهرين "لا تذهبوا به إلى المستشفى".

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات العراق.. صلاة الحقوق المقدسة

كان أبناء المدينة يتكفلون بعلاج جرحى الاحتجاجات، خلع أحد المواطنين مقاعد سيارته للتتسع للمصابين، وتطوع عدد من الشبان معه لتقديم الإسعافات الأولية، ثم نقل المتظاهرين إلى مكان آمن بعيدًا عن أعين قوات الأمن، إلا أن قوات "سوات" حطمتها في أحد أيام الاحتجاجات وتعرض أصحابها الى الضرب المبرح ولم يُعرف مصيرهم إلى الآن.

السلطة تتبجح!

يعد يوم  3 تشرين الأول/ أكتوبر، من اكثر الأيام التي شهدت مجازر مروعة في الديوانية وربما في بقية المحافظات، فقد شهد سقوط مئات القتلى والجرحى بين صفوف المتظاهرين بالرصاص الحي وأسلحة أخرى، تحولت الديوانية إلى ما يشبه مدينة أشباح، وتم التعامل مع أبنائها على إنهم "دواعش"، ولم تفض التظاهرات إلا بعد أوقات متأخرة من الليل.

لكن بعد كل ذلك خرج علينا محافظ الديوانية زهير الشعلان ليقول: "إن الوضع في الديوانية جيد جدًا ولا غبار عليه"! كما وصف المتظاهرين بكل وقاحة بـ "الخارجين عن القانون والمندسين"، واتهم المتظاهرين بشكل ساذج بحمل السلاح، قال إن "هناك أياد خفية ومندسين وراء هذه التظاهرات التي شهدها العراق"!

تبجح المحافظ بوصف المتظاهرين بالمندسين واتهامهم بحمل السلاح، على الرغم من أن عشيرته خرجت بمظاهرة قطعت الشوارع وأخلت بالنظام قبل أيام!

تبجح الشعلان، على الرغم من أن عشيرته خرجت بتاريخ 15 أيلول/ سبتمبر بمظاهرة قطعت الشوارع وأخلت بالنظام، نصرة له بعد محاولة إبعاده عن المنصب، ثم تظاهروا مجددًا قبيل يومين من مطلع تشرين الأول/أكتوبر، وهددوا بالتصعيد وحمل السلاح، لكنهم لم يكنوا "مندسين" فقد كانوا يدافعون عن سلطته. شهادات ضابط في القوات الأمنية تشير إلى أن موقف رئيس مجلس المحافظة لم يكن أقل سوءًا.

وعلى الرغم من كل ما جرى وما سوف يجري يبقى السؤال الذي ما انفك يطارد العراقيين الذين دفعوا ضريبة رفضهم للفاسدين، لمن نشكو مآسينا، كما طرح هذا السؤال من قبل الشاعر العراقي أحمد مطر دون إجابة على هذا السؤال الى هذه اللحظة، فالمسؤول العراقي كعادته يقتل القتيل ويمشي ويتباكى عند جنازته، أو قد يتولى مسؤولية التحقيق لكشف قاتله!، لا شيء بات غريبًا في هذه البلاد النازفة في كل يوم موتًا وخرابًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ماذا فعل "شيعة السلطة"؟

عن العدالة والاستبداد في واقعنا العربي