08-يونيو-2020

ثمة فئة في كل الثورات تستخدم القوة "السلمية والعنفية" لانتزاع الحقوق (Getty)

إذا دخلت سجنًا في أي دولة من دول العالم، وانتقصت من تلك الدولة وشعبها، ستجد عددًا لا يستهان به من هؤلاء المحكومين وفق جنح وجرائم بأحكام تبدأ ببضعة أشهر سجن وتنتهي بالسجن المؤبد، ستجد هؤلاء قد ثاروا ضدك بغضب وعاطفة شديدتين بغية القصاص منك بعد أن مسست أحد مقدساتهم، وهي الهوية، وهذا مقدس يحمله الكثير من الناس دون إدراك منهم بحمله، يستشعرون وجوده حين يمس الخطر مقدسهم، فتجدهم يتطوعون للدفاع عنه تارة، وتارة يلتحقون باحتجاجات تسعى للقصاص من خونته وسارقيه.

صاحب الحق لا يبرر وإن وقف العالم كله بوجهه، لكن الباحث عن الرضا من أجل الصعود على الاكتاف، سيبقى مرعوبًا من النبذ، ويحرص دائمًا على الطعن بالضعفاء

وحين تطالع ثورة ما، أي ثورة في أي مكان في العالم، ستجد فيها الحزبي والمستقل والأكاديمي والحقوقي والفنان والموظف والعامل والمجرم والمدمن والسكير والقواد، ذكورًا وإناثًا، ستجدهم مجتمعين باختلاف ألسنتهم وسلوكياتهم على هدف واحد وغاية واحدة، هي الانتصار للوطن، بعد ذلك يأتي الحق العام ليقتص من المجرم، ويعود العامل إلى عمله والجاهل إلى حياته والأكاديمي إلى جامعته لا فضل لأحد على أحد، لكن معايير التمايز والرفعة والدونية بين هؤلاء هو قوة الإيمان والمبدأ، ودرجة انحياز الثائر المحتج للحق العام على حساب مصلحته، وهنا وفقط هنا يمكن للأكاديمي العارف المثقف أن يكون أقل درجة من مدمن جاهل، إذ أن المدمن الذي لم يملك قوت يومه رفض أن يبيع صمته ويعود إلى البيت، غير أن الأكاديمي (وهنا الحديث عن مثال توضيحي إذ يمكن استبدال الأكاديمي بمحامٍ أو رجل أعمال أو ما شابه ذلك) سيستغل أول فرصة تأتي لاستغلال الوضع العام من أجل تحقيق مصلحة خاصة.

اقرأ/ي أيضًا: بين مينيسوتا وتشرين.. توقّفات وتساؤلات

ولإزالة اللبس، ليس المقصود بما تقدم هو تشكيل حكومة الدهماء (الديماغوجية) حيث يكون الحاكم فيها جاهلًا والمحكومين من العلماء، بل مراعاة المواقف عند النظر إلى الشخوص بعين الثورة، وجلب دماء الشهداء إلى المعادلة، فالقتلة يمارسون وظائف مختلفة، منهم من يضغط الزناد، وهؤلاء أقل القتلة إجرامًا وفيهم من يمنح الأمر بالقتل، وفيهم من يشجع القتل أو يغلق عينيه عنه حين يجبر على الحديث، إذ أن وجود أكاديمي انتهازي ووصولي (أكرر ثانية، الأكاديمي هنا مثال لتحقيق المعنى) لا ينفي وجود أكاديمي آخر، كان له نفس القدر من انحياز المدمن المجرم إلى الوطن، كما لا ينفي وجود مدمن ومجرم لا يحمل همًا وطنيًا في داخله.

هذه الفئة التي استعضنا عنها بالأكاديمي، عادة ما يكون غالبية أفرادها من المثقفين والصحفيين والأكاديميين والكتاب وغيرهم من الفئات المتعلمة والطموحة لارتقاء المناصب بأي وسيلة كانت، غالبًا ما يكون أفرادها ذوي مواقف مهزوزة خلال الثورات فتجدهم ينتظرون المنتصر لينحازوا إليه، وعند غشاوة الرؤية يحملون منطقًا وسطيًا مستفزًا، فتجد أحدهم يقول: أنا معك شرط ألا تكون مخربًا وأنا مع السلطة شرط ألا تقتل الأبرياء، وفي ظاهر هذه العبارة حق كبير، لكن الجدل الكامن في باطنها هو إن اتهمته السلطة بمساندة الثوار سيقول لهم كنت ضد المخربين، وجلهم كانوا مخربين، وإن حاججه الثوار سيقول كنت ضد قتلة السلطة وجلهم كانوا من القتلة، وهذا ما يجعل هؤلاء الناس سلعة للبيع والشراء، فكل الأطراف تعلم أن فلان بلا موقف، وأنه سيدير دفته باتجاه الريح أينما هبت، وسيستخدم مهاراته اللسانية بالتبرير، وعلامة هؤلاء أنهم يبررون كثيرًا، فصاحب الحق لا يبرر وإن وقف العالم كله بوجهه، لكن الباحث عن الرضا من أجل الصعود على الاكتاف، سيبقى مرعوبًا من النبذ، ويحرص دائمًا على الطعن بالضعفاء لخلق تشتيت يوجه العيون الفاحصة بعيدًا عنه.

وفي كل الثورات كذلك، تفرز الثورة من يحمل منظورًا سياسيًا عقلانيًا تجاه مسار الأحداث، فيتفهم وجود (أفضل السيئين) في حكومة ما، ويرضى بالحلول الجزئية بنية ضمان المكاسب وانتظار مستقبلٍ يحقق غيرها، كما أفرزت الثوريين، الحنابلة في ثوريتهم، الرافضين كل سوء، وغير المقتنعين بأقل من الحرية الكاملة والتغيير المطلق، وإن كان هؤلاء عاطفيين في توجهاتهم ويحيدون عن الواقع في الكثير من المواقف إلا أن مصطلح (ثوري) لا ينطبق على الفئة الأولى، بل على الثانية، فدور الفئة الأولى تظهر أهميته عادة بعد انتصار الثورات، وهم من يتمكنون من لجم اندفاع العاطفة الثورية ضد أعداء الثورة، وهم من يحققون التوازن الاجتماعي والسياسي بعد ولادة الواقع الجديد، شرط أن يكون هؤلاء العقلانيون نظيفي النية والقلب وواضحي التوجه أيام الدم والنار التي سبقت.

رأس رمح الثورات في كل مكان وذراعها المحقق للمطالب والمنتزع للحقوق هي فئة غاضبة لا تقتصر على الفقراء فقط وإنما تضم الكثير من المثقفين والأكاديميين والصحفيين وحتى رجال أمن 

أما الفئة الثانية فهي الفئة التي تصعد سقف المطالب وتواجه الموت والتغييب والاعتداءات، تستخدم القوة (السلمية أو العنفية) لانتزاع الحقوق، وتعصف ضد السلطة تحت عنوان واحد اسمه الغضب. هذه الفئة لا تقتصر على الفقراء وذوي التعليم المنخفض أو ذوي السوابق القانونية، تضم هذه الفئة في الكثير من الأحيان مثقفين وأكاديميين وصحفيين بل حتى قانونيين ورجال أمن، من فئة الشباب السنية عادة، وهؤلاء هم رأس رمح الثورات في كل مكان وذراعها المحقق للمطالب والمنتزع للحقوق، والشوكة المسمومة في خاصرة الوصوليين.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

هل تغير أحداث أمريكا نظرتنا لانتفاضة تشرين؟

معضلة النظام العراقي وأزماته.. انتهت حلول الأرض؟