26-يناير-2020

مقتدى الصدر (Getty)

مثّل مقتدى الصدر بتياره الشعبي العريض ظاهرة تستحق الوقوف والتأمل في مرحلة عراق ما بعد 2003، فهذا الرجل القادم من أسرة دينية ما انفكت تفرض عليها التطورات السياسية في العراق دورًا، ظهر بقوة بعد الاحتلال الأمريكي، بوصفه رجل دين شيعي رافضًا للاحتلال، مخالفًا بذلك التوجه الديني لحوزة النجف التي سعت للنأي بنفسها، فلا هي تؤيد الاحتلال ولا ترفضه.

كان مقتدى الصدر بمثابة صمام أمان للعملية السياسية في العراق منذ 2003 وحتى اليوم

الصدر، نجح في تسويق نفسه لفقراء الشيعة، فهو لم يكن سوى رجل دين من عائلة دينية عرفت بزهدها وتقشفها، وأيضًا معارضتها للنظام السابق، وهو بعد ذلك، رافض للاحتلال الأمريكي، منتقدًا العملية السياسية التي جاء بها هذا المحتل.

اقرأ/ي أيضًا: مقتدى الصدر.. الرابح الأكبر من تظاهرات العراق

ولكن بالمقابل، كان للصدر ميليشيات مسلحة، اتهمت في الكثير من مراحل عراق ما بعد 2003 بتنفيذ عمليات قتل طائفية وتصفيات ضد الخصوم السياسيين والمسلحين. وزاد من حدة هذا التناقض، عندما قرّر الصدر أن يشترك بالعملية السياسية التي ينتقدها ويرفض رموزها ويجتمع بهم وينسق المواقف. فهل الصدر سلّة متناقضات؟ ربما للوهلة الأولى يعتقد البعض أنه كذلك، ولكن حقيقة الأمر أن الرجل كان بمثابة صمام أمان للعملية السياسية في العراق منذ 2003 وحتى اليوم.

الحوادث التي لعب فيها مقتدى الصدر دور المنقذ للعملية السياسية كثيرة وأكثر من أن تعد أو تحصى، فكلما اختنقت هذه العملية السياسية وظن البعض أنها وصلت طريقًا مسدودًا في ظل نقمة شعبية متفاقمة، جاء الصدر من بعيد، حاملًا معه الحلول ومقدمًا للشعب المنتفض الوعود، ولعلنا نتذكر كيف أنه قاد بنفسه اعتصامًا أمام المنطقة الخضراء عام 2016 بسبب النقمة الشعبية على حكومة حيدر العبادي التي لم تفِ بوعودها الإصلاحية، وقس على ذلك الكثير.

في الانتفاضة الأخيرة التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، كان الشباب العراقي المنتفض يرفض بقوة أن تصنف أو تحسب على هذا التيار أو ذاك، كان بعض ساسة المنطقة الخضراء يعتقد أنها ستنتهي، ولن تطول، خاصة، وأنها سبقت شتاء العراق البارد والممطر، غير أنهم لم يفهموا طبيعة ما يجري من احتجاجات وفشلوا في قراءتها قراءة واقعية.

سعى الصدر إلى أن يكون له نصيب من انتفاضة تشرين، وكان كثيرًا ما يصدر بيانات التأييد، وفي أحيان أخرى يرفض أن يرفع الشباب شعارات تطالب بطرد إيران، أمر كان بمثابة هشم في جدار شعبيته الجارفة، فالعراقيون اليوم باتوا أكثر تحررًا في طرح ما يعتقدون به، ولم تعد إيران بالنسبة للكثيرين منهم دولة جارة تسعى لمساعدة العراق، كما كانت تروج لها أدبيات الأحزاب الشيعية وإعلامها، بقدر ما هي دولة محتلة تسعى لتحويل العراق إلى ساحة خلفية لها.

ليس من مصلحة الصدر أن يقف بوجه الشباب المنتفض، لأنه يدرك جيدًا أن منسوب الوعي المرتفع لدى المنتفضين قادر على أن يغرق كل من يقف بوجهه

يدرك الصدر ذلك جيدًا ويعرف أنه لم يعد له قبلٌ بمواجهة هذا الوعي، لذا تراه سعى أكثر من مرة ليكون "نصيرًا" للثورة، وزج باتباعه لتقديم الدعم والخدمات للمعتصمين في ساحة التحرير ببغداد، غير أنه في أحيان أخرى، كان يقرر سحبهم ويخلي خيم أنصاره في الساحة.

اقرأ/ي أيضًا: منافسة الصدريين: شعارات بلا عمل

ليس من مصلحة شباب الاعتصام والثورة في مدن العراق المختلفة اليوم أن يضعوا أيديهم بيد أحد ممن شارك في العملية السياسية، حتى لو كان الصدر، وهو أمر يدركه المنتفضون جيدًا وكثيرًا ما تمخض عن رفض للكثير من الشخصيات التي رشحها تيار الصدر في البرلمان لتتولى مهمة رئاسة الحكومة خلفًا لعادل عبد المهدي المستقيل.

وفي ذات الوقت، فإنه ليس من مصلحة الصدر أن يقف بوجه الشباب المنتفض، لأنه يدرك جيدًا أن منسوب الوعي المرتفع لدى المنتفضين قادر على أن يغرق كل من يقف بوجهه، حتى لو كان مقتدى الصدر الذي ما زال يسعى للحفاظ على بقية متبقية من تقدير لدى المنتفضين.

السؤال الأهم الآن، هل سيتمكن الصدر من الحفاظ على توازنه، فلا هو يفرط بالعملية السياسية التي يدعمها ويشارك بها، ولا هو يفرط بالثورة التي يحاول أن يظهر بمظهر الداعم لها، وإن كان حقيقة الأمر غير ذلك؟

أعتقد أن أمام الصدر فرصة ذهبية للبقاء إلى جانب الشعب والحفاظ على ما حققه من مكتسبات شعبية، فهو عليه أولًا أن ينحاز بشكل كامل وصريح لمطالب المتظاهرين، وأن يتمرد على تعليمات طهران، وأن يعلنها صريحة مدوية بأن لا عودة إلى العملية السياسية وشخوصها التي كانت موجودة قبل انتفاضة تشرين، وأن يبادر هو وميليشياته قبل الآخرين، بتسليم أسلحته للحكومة الجديدة، وبغير ذلك، فاعتقد أن الدائرة ستدور على الصدر وتياره، وسيجد نفسه في حال نجحت الثورة بتحقيق مطالبها، خارج دائرة الضوء والفعل حتى.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مقتدى الصدر.. بين الأتباع والنقّاد

الصدر يعاتب المتظاهرين ويعلن براءته من القوى التي تؤخر تشكيل حكومة مستقلة