26-يونيو-2019

معظم الحركات المعارضة في العراق تسير بلا رؤية بعيدة وأما تتحرك بإطار عاطفي أو مشاركة في السلطة (فيسبوك)

على الأرجح أن من رفع شعار الكتلة العابرة للطائفية لم يكن يمتلك الأدوات الكافية لقراءة الواقع السياسي العراقي وتشعّباته وتفاصيله المعقدة، فبالتالي انخرط في عملية سياسية تدفع بقوة باتجاه المحاصصة الطائفية، وكان يأمل أن يغيّر البوصلة من الداخل، في حين كان الأولى -ربما- الانخراط في المعارضة ليبقى محافظًا على سلامة مشروعه ومبادئه التي كان ينادي بها. فضلًا عن الخبرة التي سوف يكسبها من حراك المعارضة، مضافًا إلى كسب الثقة والمشروعية الشعبية، وهذا هو الأهم، حينما يصطف مع جبهة المعارضة ويدشّن لحظة سياسية كانت غائبة في القاموس السياسي العراقي. لكن اتفق الكل على أن يزهدوا بالمعارضة ويتشبّثوا بالسلطة.

الطيبون ليس لهم مكانًا في نادي السياسة، وهذه الأخيرة لا تستلهم قضاياها من كتب الشعر والرواية، بقدر ما تستلهمها من الواقع وتحدياته

الدرس الذي نتعلمه من هذا الحدث السياسي، هو أن ندرس إمكانياتنا بشكل موسع قبل الخوض في معترك سياسي خطير، ويتضح لنا فيما بعد، أن حقل السياسة هو حقل مصالح، حقل تتصارع فيه الإرادات لإدارة السلطة. إدارة السلطة وقضاء حوائج الناس لهي أنبل وأقدس الغايات، لكن أن نختزل الزمن والتاريخ بمبادئ متعالية عن الواقع، فهو أحد أمرين: إما عن براءة، أو تلكؤ في الأداء السياسي، وبكلا الحالتين، لا البراءة ولا التلكؤ السياسي كفر وتجديف إذا ما منحتنا الخبرة السياسية لاحقًا، وبخلافه سنكرر ذات الأخطاء.

اقرأ/ي أيضًا: ذكريات من دفتر الاحتجاج العراقي

المشكلة ليست في فساد النوايا أو في صلاحها، ففي الحقل السياسي ثمة ضوابط تنير لنا الطريق وتتعدى حالة الطهرانية إلى حالة الصراع المحتدم بين الإرادات لتحقيق الصالح العام. الطيبون ليس لهم مكانًا في نادي السياسة، وهذه الأخيرة لا تستلهم قضاياها من كتب الشعر والرواية، بقدر ما تستلهمها من الواقع وتحدياته. وحينما ينخرط رجل الدين في هذا النادي المتلوّن، ينبغي عليه إعداد العدّة لهذا اليوم العصيب، وبخلافه ستكون مغامرة غير محسوبة، وأحلام شعرية سرعان ما تتكسر أمام حائط الواقع الصلب.

متى ما تبلور لنا جمهور يعي مصالحه الحيوية، سيظهر السياسي العملي، ذلك أن الجمهور يخلق سياسيًا طبقًا لصورته؛ فإذا كان جمهورًا قبليًا أو طائفيًا سيفرز سياسيًا مماثلًا لأن السلطة لا تنطلق من الأعلى كما هو سائد، بل تبدأ من الأسفل وتدعمها فئات واسعة، فالمجتمع المنبع الأول للسلطة  بكل أشكالها. وإن سلمنا بأن جماهيرنا جماهير ثابتة وعقائدية، فعلى الأقل فلتجعل هذه الجماهير "زينة الحياة الدنيا" مبدأً جوهريًا لفعلها السياسي، أي تتحول في شقها الدنيوي إلى جماهير مصالح، وفي فعلها الأخروي إلى جماهير عقائدية، الأول قداسة دنيوية تسارع في علمنة الدولة، والثانية - إذا حشرت أنفها في السياسة - تساهم في تطييف الدولة وتدينها!. إلا إذا كنا نحلم بدولة دينية فهذا بحث آخر، إما إذا ابتعدنا عن هذه الشبهة فلنبحث عن مصالحنا الدنيوية. لكن هل حقًا أن الجماهير الدينية حسمت أمرها في شكل الدولة؟ في الحقيقة لا يوجد جواب واضح، ما عدا شعارات فضفاضة تدعو لـ"الدولة المدنية"، وهذا المفهوم غامض ومتذبذب؛ هل يعني دولة عَلمانية بقوانينها ودستورها مع عدم تحييد الدين في المجال العام أم هناك أمر آخر؟!. والسؤال الآخر، إذا كانت الجماهير تطالب بقداسة دنيوية فعلًا، فلماذا حتى هذه اللحظة لم تنل شيئًا سوى شعارات زائفة، ويقابلها موت بالمجان وضحايا من الطبقة الفقيرة؟ الجواب لدى الجماهير طبعًا!.

إصلاح بلا ركائز

سواء جادلنا بمفهوم الإصلاح وجدواه وواقعيته في ظل نظام اجتماعي وسياسي فاسد، سواء جادلنا بالمقارنة بين الإصلاح والثورة، وأيهما يصلح في وضعنا هذا. وما هي نتائج الإصلاح وسط نظام قائم على التحاصص الطائفي. لكن لو استثنينا هذه الإشكاليات، يبقى الأمر المهم: كل من يسعى للإصلاح لا بد أن يتدرّع بكتيبة أو سرية من الخبراء!، أسوة بالكتائب والسرايا العسكرية. للعسكر دوره في حسم المعركة، وللخبراء دور في إرساء دعائم التفكير الصحيح. لا يمكن إدارة مشروع  كبير بلا خبراء، وقديمًا كنوا يطلق عليهم "أهل الحل والعقد"، وهؤلاء بلحظتنا المعاصرة أهل الاختصاص، فشؤون السياسة وتعقيداتها لا تدار من رجال الدين الذين ليس لهم خبرة في ذلك، اللهم إلا اذا كانوا منخرطين في العمل السياسي، فعند ذلك ينطبق عليهم مفهوم السياسي وليس طالب العلوم الدينية.

الخبراء يختزلون الزمن ويضبطون النزعة الارتجالية التي تتفشّى في ثقافتنا، ومن دونهم نغدو متعلمين على طريقة التجربة والخطأ، وهذه الأخيرة تستنزف أعمارنا: أربع سنوات من الخطأ ويوم واحد من الصواب!. ثم نكتشف لاحقًا أن قراراتنا لم تكن مدروسة بقدر ما كانت ارتجالًا.. الارتجال آفة الفكر والحكمة، والقنبلة الموقوتة التي يمكنها أن تمزّق الفكر وتحيله أشلاء.

 لم تستعمرنا الدول الغربية بارتجالها، بل بخبرائها ومراكز بحوثها ودراساتها المعمّقة. وإن كانت ثمّة مبادئ يتحلون بها، فهذه يدخرونها لشعوبهم التي ضحت من أجلهم. بكلمة أخرى: إنهم يكافئون شعوبهم بسياسات داخلية توفر لهم سبل العيش الكريم ولا تتعامل معهم بطريقة عقائدية مبدئية، فالناس في نهاية المطاف لا تلتهم الشعارات، بل تبحث عن الاستقرار السياسي والاقتصادي. أما من يبني السياسات فهم أهل الفكر وليس غيرهم.

كل من يسعى للإصلاح لا بد أن يتدرّع بكتيبة أو سرية من الخبراء، أسوة بالكتائب والسرايا العسكرية. للعسكر دوره في حسم المعركة، وللخبراء دور في إرساء دعائم التفكير الصحيح

الحضارة التي لا تحترم أهل الفكر مصيرها الأفول، وتبقى شبح حضارة وذكريات ترويها لنا العجائز. الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لم يقم بها حاشية الرئيس بل قامت بها عقول جبّارة ومرعبة والتي فكّكت إمبراطورية  الاتحاد السوفيتي. السياسة يعمرها أهلها ولا يعمرها أهل الحدوس الشخصية.

 لنسأل أنفسنا، ماذا نريد من هذا الإصلاح: دولة ديمقراطية تحترم الحقوق والحريات، أم دكتاتورية بثوب جديد؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مقتدى الصدر.. بين الأتباع والنقّاد

مدن العشوائيات "المقدّسة"