16-أبريل-2019

لعب اليهود دورًا بارزًا في تاريخ العراق الحديث وتأسيس الدولة

اتجه معظم الكتاب بعد 2003 إلى الحديث عن الأقليات المضطهدة في العراق وشخصياتهم وأثرهم الذي تركوه على الساحة العراقية، مع بيان أهم الملابسات وتوضيح الصور الغائمة عنهم، لتشكيل تأريخ لحقب معينة ترجع إليها الأجيال اللاحقة لتدرك أهمية التنوع وتعرف أيضًا أين كنا وأين أصبحنا وكيف أن العراق بدأ يفقد شرائح شعبه وأطيافه.

يسلط كتاب "يهود العراق" الضوء على الوجود اليهودي في العراق ودورهم في تأسيس الدولة العراقية وأهم شخصياتهم وطقوسهم ومعتقداتهم بدءًا من الدولة الآشورية والسبي البابلي حتى المؤامرة الصهيونية

ومن هذه الكتب، كتاب "يهود العراق" من اعداد وتقديم مازن لطيف الذي يقول: "كنت وما أزال أتابع بشغف وبلهفة كل ما يُذاع ويُكتب عن يهود العراق في الكتب والصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، وفي نفسي رغبة ملحُة، للتعرف على تاريخهم وتقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم". يقع الكتاب في 275 صفحة من القطع الكبير، صدر عن دار عدنان سنة 2013، بطبعته الخامسة.

يتضمن الكتاب مقالات وحوارات وندوات وبحوث، بالإضافة إلى ملحق للصور ضم أكثر من خمسين صورة، وجاء في سبعة فصول، تناولت الوجود اليهودي في العراق ودورهم في تأسيس الدولة العراقية وأهم شخصياتهم وطقوسهم ومعتقداتهم.

اقرأ/ي أيضًا: آخر يهود العراق

تتفق كل المقالات الواردة في الكتاب أن الوجود اليهودي في العراق يعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، ففي عام 722ق.م حيث قادت الدولة الآشورية حملة عسكرية كبيرة على مملكة إسرائيل، تمكنت من خلالها إزالة هذه المملكة من الخارطة السياسية للعالم القديم ونفي سكانها إلى مدن وقرى مملكة آشور.

 وأتبعها الملك البابلي (نبوخذ نصر الثاني) بحملتين عسكريتين على مملكة يهوذا في العامين 597 و 586 ق.م تمكن من خلالها القضاء على تلك المملكة نهائيًا ونقل سكانها إلى بابل بما عُرف تاريخيًا بالسبي البابلي لليهود، ولم يعاملوهم سكان بلاد الرافدين على أنهم أسرى بل عاملوهم معاملة طيبة ومنحوهم حقوق المواطنة الكاملة. مما جعل اليهود يرفضون العودة وفضلوا العيش في هذه البلاد وتقديم كل خبراتهم من أجل تطورها وتقدمها.

حاخامات واحبار اليهود في بغداد عام 1910

أما عن دور اليهود في تأسيس الدولة العراقية، فيشير الكتاب إلى أن اليهود دخلوا في الحياة السياسية في أيام مدحت باشا (1869 – 1872)، والذي وضع تنظيمًا للتقسيم الإداري للعراق، وأنشأت على هذا الأساس مجالس وولايات، وقد اشترك اليهود في عضوية هذه المجالس وساهموا بشكل مباشر في إدارة البلاد.

لعب اليهود دور بارزًا في تأسيس الدولة العراقية في أيام مدحت باشا وبعد ثورة العشرين، ومن أبرز وجوه ذلك الدور وزير المالية ساسون حسقيل

لعب اليهود كذلك، دور بارزًا في تأسيس الدولة العراقية الحديثة (1914- 1921)، فقد كان لهم دور كبير في أحداث ثورة العشرين حيث تم تكليفهم بلعب دور الوساطة وذلك لأنهم يجيدون اللغة الإنجليزية، فيعبرون عن لسان حال الأهالي. وبعد انتهاء الحرب شكلت الحكومة العراقية الأولى برئاسة عبد الرحمن النقيب، حيث كان لأبناء الطائفة اليهودية دور مهم في هذه الحكومة فأسندت إلى ساسون حسقيل وزارة المالية 5 مرات في فترة الحكم الملكي.

الملك فيصل الأول في زيارة لمستشفى مئير الياس في بغداد والى يساره الحاخامان ساسوس خضوري وعزرا روبين دنكور

أسهم حسقيل بوضع الأسس الصحيحة لقيام الاقتصاد العراقي وبناء ماليته على وفق نظام دقيق، وقال عنه أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب": "إنه الوزير الثابت في الوزارات العراقية؛ لأنه ليس في العراق من يضاهيه في علم الاقتصاد والتضلع في إدارة الشؤون المالية".  وأشهر ما ينقل عن حسقيل هو ما جرى بينه وبين شركة النفط البريطانية عندما أصر على شركة النفط البريطانية المسجلة عندئذ باسم شركة النفط العراقية التركية بدفع حصة العراق بالذهب، بالشلن الذهبي، بدلًا من الباوند الإنكليزي الورقي. استخفت الشركة بطلبه حيث الباوند الإنكليزي أقوى عملة في العالم آنذاك، فسخروا منه واتهموه بأنه رجل قديم الطراز، فهز رأسه قائلًا: "نعم، هكذا أنا سامحوني، رجل متحجر الفكر، ومن بقايا العهد العثماني، رجاءً، ادفعوا لنا بالذهب..."، فوقعوا على الدفع بالذهب.

وسرعان ما ثبت أن حسقيل أعلم منهم جميعًا، فبعد سنوات قلية تدهور الباوند الإسترليني بالنسبة للذهب، ولكن شركة النفط لم تجد مفرًا من الدفع للعراق بالذهب، والنتيجة ظل العراق يكسب ملايين إضافية بسبب تفوق الذهب على العملة الورقية الإنكليزية.. فاخذ البريطانيون يتضايقون من وجود حسقيل على رأس وزرا ة المالية، فسعوا إلى التخلص منه حتى تمكنوا من ذلك بعد سقوط حكومة ياسين الهاشمي. 

كما يحسب للوزير اليهودي مشاركته في كتابة دستور العراق لعام 1925، ودروه أيضًا بتشريع قانون الأحزاب التي كانت محظورة آنذاك، قبل أن يختم حياته بمنجز من منجزاته الكثيرة، فحاول وضع خطة لإصدار عملة عراقية وطنية، وسعى جاهدًا من أجل تحقيق ذلك... وبالفعل فقد تم ذلك عام 1932م، وأصبحت النقود العراقية هي المتداولة بدلًا من الروبية الهندية والليرة التركية.

 عهد الرعب اليهودي في العراق

يمثل نيسان/أبريل 1941، مفصلًا في تاريخ العراق الحديث وتاريخ أبنائه اليهود، فبعد انقلاب رشيد علي الكيلاني وهروب الوصي عبد الإله وفرض العقداء الأربعة حكومة الكيلاني، انهار الأمن في بغداد التي كانت تعاني آنذاك من الغارات البريطانية، فنزل الغوغاء إلى الشوارع واستهدفوا اليهود الذين كانوا ميالين للانكَليز والوصي والكارهين لألمانيا وهتلر.

تعرض اليهود في العراق إلى حملة صهيونية منظمة للتهجير إلى إسرائيل كانت أفظع فصولها وأشهرها أعمال الفرهود بعد نيسان/أبريل 1941

استهدف حينها المواطنون اليهود وسرقت أموالهم وأملاكهم وحصلت أعمال "الفرهود" (السلب والنهب)، ودمرت المتاجر اليهودية في بغداد، واستغل الصهاينة موقف السلطات العراقية وتصريحات العناصر القومية المتشددة والاعتقالات والإعدامات التي جرت بحقهم، فقامت الحملة الصهيونية بنشر تقاريرها في أوروبا والولايات المتحدة عن "عهد الرعب" وتعذيب واضطهاد آلاف العراقيين وارسالهم إلى معسكرات الاعتقال، بعد ن أصدرت حكومة السويدي القانون رقم (1) لسنة (1950) الذي سقطت بموجبه الجنسية العراقية عن اليهود الذين يريدون الهجرة من العراق، ثم أصدرت حكومة نوري السعيد القانون رقم (3) لسنة (1950) لتجميد وحجز أموال اليهود.

شارع التوراة في بغداد 1970

وينقل الكاتب عن الدكتور أحمد سوسة قوله: إن نزوح اليهود من العراق تم نتيجة تواطؤ بين نوري السعيد والصهاينة في النمسا على تهجيرهم بالإرهاب والقوة إن اقتضى الأمر".

ويلفت الدكتور مجيد القيسي بمقاله تكوين العقل اليهودي والذي تضمنه الكتاب إلى "أن المنتفع الأول من آثام الحركة الإجرامية الطائشة هم البريطانيون والسلطة القائمة والحركة الصهيونية والتي استثمرتها سياسيًا إلى أبعد مدى، فجعلت منها واحدة من النكبات التاريخية الكبرى، وقد ظهرت انعكاساتها وارتداداتها المتلاحقة بعد عام 50 حيث بدأت التفجيرات هنا وهناك فواكبتها حملة توزيع منشورات ودعوات شفهية من المنظمات الصهيونية في دور العبادة والمقاهي تطلب اليهود بمغادرة العراق فورًا والذهاب إلى إسرائيل، وهو أمر لم يكن غير طبيعي وغير متوقع، كما أنه لم يكن أمرًا غريبًا أن يتطابق هذا السيناريو مع أجندات الحركات القومية الدينية المتطرفة، حيث قامت بتوزيع منشورات مماثلة تطالب بطرد جميع اليهود من العراق".

يستغرب ويتساءل القيسي، كيف أن بعض الكتاب "راحوا يسطحون تلك المأساة الإنسانية، ويجردونها من دوافعها السياسية المفبركة، ويعزونها إلى مجرد واقعة نهب وقتل قام بها الغوغاء من العراقيين. ولم يكتف البعض بذلك بل راح يضع لنا نظريات (سيكولوجيه) غريبة يزعم بها بأن ما حصل عرض لداء، او طبع خاص بالشخصية العراقية!".

صورة نادرة للفرهود في بغداد عام 1941

يقول الكاتب رشيد الخيون: لقد اجتمعت في تهجير يهود العراق مصلحة الحكومتين آنذاك العراقية والإسرائيلية، فالأولى تخلصت من عدد كبير من اليهود المنتمين الى أحزاب المعارضة، والاستحواذ على أموالهم ومتعلقاتهم، مثلما فعل البعثيون مع تجار الشيعة في الثمانينات، أما الثانية؛ فحاجتها إلى بنَّائين، وليس هناك، أفضل من يهود العراق، هذا هو الاتفاق وعهد الشرف بين الحكومتين".

اقرأ/ي أيضًا: الدعوة إلى الوهم.. هل هناك جدوى من "التطبيع"؟

وكانت الحكومة العراقية تحث اليهود على الهجرة من البلاد حينًا، وتجبرهم عليها أحيانًا أخرى؛ حيث كانت ترسل قسرًا كل يهودي، تنتهي محكوميته إلى إسرائيل، وهناك من رفض هذه الهجرة القسرية، فما كان من الحكومة، إلا أن أمرت بقتله، فضحوا بحياتهم من أجل الموت في بلادهم. كما يروي مكرم الطالباني كشاهد عيان على مذبحة سجن بغداد في حزيران/يونيو 1953، والذي يقول إنه سمع معاون الشرطة يحثُ عناصر الشرطة على القتل واقتحام السجن بقوله: "هؤلاء يهود تريد الحكومة إرسالهم إلى إسرائيل، ولكنهم عصوا، اقتلوهم".

المراقد الدينة اليهودية في العراق

لليهود في العراق أكثر من 9 مراقد مقدسة اعتاد اليهود على زيارتها في أعيادهم وفي أوقات أخرى وبعض هذه المراقد لها قدسية أيضًا عند المسلمين ومنها:

مرقد يوشع كوهين في الجانب الغربي من بغداد، ومرقد الرباني يوسي الجليلي، مرقد الرباني يوسي هجيلي الذي يقع في مدنية الموصل، مرقد يونا (النبي يونس) بجانب خرائب نينوى، وإلى جانب مدينة الموصل، مرقد حزقيال أو الكفل على بعد 20 ميل جنوب الحلة، وفيها أيضًا مرقد النبي حزقيال، مرقد بنيامين بن النبي يعقوب، والذي يوجد على إحدى قمم الجبال القريبة من قصر شيرين على الحدود العراقية - الإيرانية. 

يضم العراق أكثر من 9 مراقد مقدسة اعتاد اليهود على زيارتها في أعيادهم وفي أوقات أخرى وبعض هذه المراقد لها قدسية أيضًا عند المسلمين

شخصيات يهودية  لامعة 

ثمة طبقة من اليهود انشغلت بالآدب وبرز منهم أنور شاؤول، وهو شاعر مجدد، ومن الرواد الأوائل للقصة العراقية، وفي مجال الشعر مثل الشاعر مراد ميخائيل. وفي مجال الغناء شكل العراقييون اليهود صفوة المبدعين ومن أبرزهم: يوسف حوريشو الذي كان يقرأ المقام، وفلفل كرجي والأخوان صالح الكويتي وداود الكويتي القادمان من العمارة، والتي تعود لهم جل الأغاني التراثية العراقية، كذلك ظهر منهم المطربة سليمة مراد (باشا) وغيرها.

 ولمعت شخوص يهودية بنشاطها العلمي ومنهم الأطباء الذين كانوا اكثر شهرة في بغداد والمدن العراقية، مثل إحسان سمرة، وجاك عبودي شابي الذي اختص بالجملة العصبية وغيرهم.

رينيه دنكور ملكة جمال العراق لعام 1947

يقول الكاتب مازن لطيف، إن أهل العمارة لا يمكن أن يسهوا عن اسم داود كباي (كبايه)، الذي أمسى رمزًا للإيثار والتسامح والعطاء لديهم.  ومن الجدير بالذكر أن أول مدرسة للبنات بنيت في مدينة العمارة عام 1911 كانت من سلسلة الألياس (الاتحاد) قد بناها يهود المدينة لسكانها من المسلمين.

وفي مجال الصحافة لعب بعض اليهود دور فاعلًا في هذا المجال ومنهم: سليم البصون، ونعيم طويق الذي كان كامل الجادرجي يعتمد عليه كثيرًا في تحرير الأخبار في جريدة الأهالي، وأنور شاؤول،  والصحفية  نيران البصون  التي تقول: أنا ابنة العراق، في جسدي يجري دجلة والفرات كالشريان والوريد، ولا يستطيع أحد أن ينزع العراق مني، ولو نزعوني من العراق. لقد هُجرت من قلب العراق قسرًا، ولكن لم يستطع أحد أن يأخذ العراق من قلبي. 

من أحد وجوه النشاط المحتدم العاكس للعقلية المتفتحة، هيمنة يهود العراق على مجال الطباعة والنشر، ويتضح ذلك من خلال المطابع التي أسسوها خلال النصف الأول من القرن العشرين والتي بلغ قرابة خمسة عشر مطبعة، توزعت أنشطتها بين طباعة الكتب والصحف والمجلات وتبنت مختلف الإصدارات العلمية والأدبية، الى جانب الملحقات التجارية وغيرها من المطبوعات.

من القصص موشومة في ذاكرة العراقيين عن اليهود، ينقل القاضي زهير كريم عبود أن الشاعر أنور شاؤول قد توفيت والدته ولم يزل رضيعًا في الشهر السابع، وفي لجة انشغال العائلة بالبحث عن مرضعة له، تحل عليهم جارتهم (أم حسين) التي اعتادت إطعامهم التمر الأشرسي، من نتاج نخلات بيتها تصطحب معها ابنة عمها (وضحة – أم عبد الهادي) التي تتبرع بارضاع أنور، ثم تقوم بارضاعه، ليصبح أنور شاؤول اخًا لعبد الهادي بالرضاعة.

لمعت شخصيات يهودية في مختلف المجالات والتخصصات في العراق، كالفن والآدب والصحافة والطب ومن أبرزهم سليم البصون، إحسان سمرة، مراد ميخائيل، الأخوان صالح الكويتي وداود الكويتي، وسليمة مراد (باشا)

ومن القصص والحكايات أيضًا تلك التي ينقلها مازن لطيف، عن يهود الديوانية في مقاله الذي جاء بعنوان "يهود الديوانية.. أسماء وذكريات"، وهي عندما قام أحد يهود الديوانية بطرق باب جاره المسلم الفقير وأخبره بأن كل ممتلكاته سيصادرها النظام الدكتاتورى الذي أمر بتهجيره ورجاه أن ياخذ منه وعن طيب خاطر اثمن مالديه من نفائس فراح الرجل يلطم على رأسه ويقول (اذا خسرتك شلي بالمال) مفضلًا الفقر النبيل على الثراء بنذالة. 

صورة الحاخام عزرا روبين دنكور، صاحب مطبعة دنكور

يقول الناقد واللغوي والشاعر اليهودي سامي موريه: "إن العراق هو قدري الذي يلاحقني في كل مكان أحل به في هذا العالم الذي أصبح صغيرًا بفضل سرعة المواصلات والعولمة، فلم يكتف بدمغي "بحبة بغداد" في خدي الأيسر بل أبقى على لهجتي العراقية بكل لغة أتكلم، بها والتي يدعوها بعض رقيقي المشاعر في إسرائيل بلهجة "قـَوْقـَوْ". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"حمّام اليهودي" لعلاء مشذوب.. التاريخ الموازي للتنوع في كربلاء

بسفارة إلكترونية وحيلة اقتصادية.. إسرائيل على أسوار بغداد