13-أبريل-2020

من المقابر الجماعية التي تركها نظام صدام حسين في العراق (Getty)

من "حسنات" الثقافة التي ولدنا فيها أنها تثأر وبشراسة لكل خطاب نقدي يهدد جرحها النرجسي الغائر. ثقافة لم تتنفس هواء نقيًا بما يكفي جراء السم الزعاف الذي تجرعته طوال تاريخها السياسي المشئوم. حتى أصبح الآخر لا يمكن تمثّله إلا بصورة حزب أو طائفة أو قومية أو بطل، وما عدا ذلك فكل شيء يبق في الهامش. ويمكن لأكثر السياسيين انحطاطًا في تاريخنا السياسي أن يتحول إلى قديس، ويمكن لكل كتب التاريخ أن تصدع رؤوسنا بسرديات قوامها الجدل والمرويات المرسلة دون أن تصل، على سبيل المثال، إلى حقيقة مفادها: هل كانت الملكية، أو الجمهورية، خير أو شر؟ حتى هذه اللحظة لم يحسم هذا الجدل على الرغم من تاريخه القريب! والسردية التي يتمسك بها الفريقان حول تاريخ صدام حسين لم تشذ عن هذه القاعدة. كما لو أننا نتكلم عن تاريخ بداية الكون!

 لم يترك صدام حسين وسيلة لتصوير العذاب البشري إلا وكانت من أولويات السياسة القمعية العزيزة على قلبه

أنا لا أشك بهذه الحقيقة التالية: إن محبي صدام حسين يعلمون قبل غيرهم مدى جبروته وطغيانه. ويعلمون كذلك أنه لم يكن رحيمًا لا مع خصومه ولا مقربيه إذا تعلق الأمر بالسلطة. ولا يخفى عليهم أن غرور صدام وحبه لذاته أوصلنا إلى ما نحن عليه. لم يترك "عبد الله المؤمن" وسيلة لتصوير العذاب البشري إلا وكانت من أولويات السياسة القمعية العزيزة على قلبه؛ تعليق السجناء من عظم الترقوة، دق المسامير في آذانهم ولصقهم في الحائط مما يتعذر عليهم التحرك، ليبقوا مسمّرين على الحائط لساعات طوال، ورمي المشتبه بهم من بناية عالية وهم مُعصّبين، وتذويبهم في حامض التيزاب (وكان والدي أحد ضحايا هذا العذاب) ولم يتبقَ منهم شيئًا على الإطلاق، وبتر آذان الهاربين من الخدمة العسكرية.

اقرأ/ي أيضًا: استدعاء الدكتاتور صدام حسين.. الحاجة إلى البطل!

يصعب علينا تعداد الطرق الوحشية التي كان يستخدمها هذا الرجل ضد خصومه، فالقائمة تطول. وبشهادة اقرب المقربين إلى صدام حسين، وهو صلاح عمر العلي، كان صدام حسين من أشد المفتونين بالحرب العراقية الإيرانية، رغم الوساطات والنصائح التي قُدمت له. ولا ننسى اللقاء الثنائي الشهير الذي عقد بينه وبين وزير خارجية إيران إبراهيم يزدي، على هامش قمة دول عدم الانحياز، بترتيب من صلاح عمر العلي. وكان اللقاء يتمحور على تجنب الحرب، وقد قدم وزير خارجية إيران كل السبل الممكنة لتفادي هذه الحرب، خصوصًا أن إيران كانت في فوضى سياسية عارمة، وآخر ما تفكر به هو خوض الحرب مع العراق. وكان صلاح عمر العلي في وقتها معجب بالمستوى الدبلوماسي العالي الذي أبداه الطرفين. وقد كان إبراهيم يزدي، كما يصفه العلي "حريص كل الحرص لإنهاء هذه الأزمة.. وكان إنسان دمث الأخلاق ومنفتحًا، وقدم عروضه لصدام بشكل غير معقول. الانطباع الذي تولد عندي من خلال اللقاء إن إبراهيم يزدي يبذل أقصى جهد من أجل أن تنتهي الأزمة بين العراق وإيران".

لكن كيف يمكن التعامل مع شخصية "نحمل الشيء وضده"، بحسب توصيف صلاح عمر العلي؟! فبعد رجوعه لبغداد، يكمل العلي، صدمه صدام حسين بأن الدبلوماسية قد أفسدتك يا صلاح! وإن هذه الحرب ستنتهي في غضون ستة أشهر!

ولا أظنني بحاجة لسرد المأساة التي تكللت بغزو الكويت وما تلاها من حصار بغيض، كما لو أنه سيناريو كان معد سلفًا لكي يحجز الأمريكان مقعدًا عسكريًا لهم في منطقة الخليج، ثم اجتياح العراق بهذا الشكل الوحشي وتحطيم بناه التحتية. ولم يبقِ أي أثر للحياة لسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلازال المجتمع العراقي لم يتعافَ بعد من جروح الحصار الاقتصادي الإجرامي. كل هذا كان بطله "حامي البوابة الشرقية"، وعلى ما يبدو أننا شعب اعتاد على دفع الأثمان الباهظة من جيبه الخاص دون أن يعلم لماذا يحدث كل هذا، ولماذا كُتب على العراقيين أن يعتذروا بالنيانة عن طغاتهم.

لكن هل يحق لنا إدانة محبي صدام كونهم يتناسون كل هذا التاريخ المؤلم؟ قد نتلمس العذر للناس العاديين وهم يحتفلون بذكرى صدام حسين ويتجاهلون مشاعر ضحاياه ومقدار الدم والدموع التي سُكبت تحت سلطة حزب البعث. خصوصًا أن هؤلاء الناس تراكمت لديهم سجّلات ضخمة للموت والقتل والتشريد والتنكيل والاعتقال، لكن عن ماذا يتكلم ضحايا انتفاضة تشرين لو قُدّرَ لهم أن يجتمعوا بمحبي صدام؟! ترى ما هي طبيعة الحوار المًتخَيّل الذي سيدور بينهم؟ هل ثمّة مفاضلة متوقعة ستجري بين الفريقين عن "العصر الذهبي"، كما يحلو لمحبي صدام تسميته، والعصر الحالي الذي ذهب ضحيته في انتفاضة واحدة، وبفترة وجيزة، أكثر 600 شهيد و21 ألف جريح؟ سنرجع إلى ذات الحقيقة المكرورة والمملة وهي: ما البديل الذي جاء بعد سقوط البعث لكي تنسى الناس تاريخ البعث المرعب؟ هل هنالك مبررات كافية ومقنعة لعقد مقارنة صحية بين الأمس واليوم؟ هل ثمّة مبرر مقنع لتنازل الناس عن نقاطهم المرجعية واستبدالها بالعدم؟!

ما البديل الذي جاء بعد سقوط البعث لكي تنسى الناس تاريخ البعث المرعب؟ هل هنالك مبررات كافية ومقنعة لعقد مقارنة صحية بين الأمس واليوم؟

لقد تفجرت لدينا حمم بركانية جرفتنا بسيول من الكراهية: ضحايا صدام حسين، وضحايا السلطة الحالية التي قامت بأكبر عملية تنكيل ضد أتباعها، ولم تترك شيئًا لمحبي صدام لمراجعة ضمائرهم!. فبالحسابات التاريخية قد يتعادل الفريقان، فنحن الشعب المغضوب عليه من نكره يا ترى؟! لا يوجد لدي جواب سوى هذه الحقيقة: إننا بحق شعب الله المحتار.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

صدام حسين.. الدكتاتور الذي يأبى الموت

ميلاد الرئيس.. كرنفال فقراء صدام