16-يوليو-2019

نظام المحاصصة في العراق استخدم العشائر أيضًا في الاصطفافات الطائفية (Getty)

لم تستطع الحكومات المتعاقبة ومنذ تأسيس الدولة العراقية أن تقضي على المنظومة العشائرية أو تدمجها في سياق الهوية الوطنية. وتعتمد قوة العشيرة وتأثيرها على ظروف المرحلة وقوّة القانون والدولة، فيما حافظت المنظومة العشائرية طوال الفترة الماضية على مكانتها لتكون أداة ضبط اجتماعي تُستدعى لنصرة أبناءها في الأزمات الداخلية أو مع العشائر الأخرى، لكن التغييرات التي طرأت على المجتمع بعد 2003 أدت إلى تششت مركزية العشيرة وتخلي الكثير عن ثوابتها الموروثة، لتسخر أعرافها أحيانًا وكما يرى مراقبون لسلب الأموال تحت تبويب "الفصل".

تسخر أعراف العشيرة أحيانًا لسلب الأموال من الناس تحت تبويب ما يعرف بـ"الفصل" 

و"الفصل" هو عقوبة تفرضها العشيرة المعتدى عليها، ويكون المال أول أركانه، بالإضافة إلى سلسلة شروط مثل منع دخول المسبّب إلى منطقة وقد يشمل إجلاء عائلته من المنطقة، وبعضها يتخللها شرط تزويج نساء من ذوي المعتدي إلى المعتدى عليه، وتحدد الأعراف طبيعة الفصل بحسب الاعتداء، والذي  يبدأ من أصغر شجار بين أطفال في الشارع وصولًا إلى حوادث القتل المتعمد وغير المتعمد.

دورة حياة المشكلة

لا يوجد تعريف دقيق للمشكلة العشائرية ولا وحدة قياس، أو مقارنة بين المشاكل، فمن الممكن أن تتعالى الأصوات ويعلو أزيز الرصاص جرّاء شجار بين أطفال أو لدخول حيوان في أرضٍ زراعية، حيث سقط الكثير من الضحايا إثر نزاعات مسلحة لأسباب مخجلة، مثل حادثة "الشيبس"، حيث قتل شخص وجرح آخر في شجار بين عائلتين، بسبب كيس "شيبس" في العاصمة بغداد، وكان "الشيبس" مرمي على منزل منتسب في وزارة الداخلية، فيما قام شقيق المنتسب برمي نفايات على الجار الذي تخاصموا معه ثأرًا لوقوع الكيس على داره، الأمر الذي أدى إلى تجدد الشجار من جديد عندما جلب المنتسب سيارة تقل مسلحين إلى المنطقة، وقام أحدهم بالرمي العشوائي ما أدى إلى مقتل أحد الأشخاص الذين كانوا يحاولون فض الشجار وإصابة آخرين. 

اقرأ/ي أيضًا: فزاعة العشيرة العراقية.. سيف المحاصصة المشهر

تكثر هذه النزاعات في المحافظات الجنوبية بالإضافة إلى المناطق الشعبية في بغداد خاصة شرقها والذي تعود أصول سكانه إلى جنوب العراق، وتتماهى القوات الأمنية والقانون إلى حد ما مع السياقات العشائرية بسبب طبيعة النظام العراقي، فيما اتخذت حزمة إجراءات مؤخرًا في تجريم السلوكيات العشائرية مثل "الدكة" والتي يتعامل معها القانون وفق المادة 4 إرهاب.

حسن جبار وهو وجيه اجتماعي وعشائري، يقول إن "الظروف التي حدثت بعد 2003 قتلت الكثير من المودة والسلام في المجتمع، مضيفًا "بات الكثيرون يستمتعون بكونهم "أصحاب حق"، وفي أية نزاع يستدعون العشيرة ويحاولون أخذ الفصل، متناسين الأواصر الاجتماعية والأعراف التي قام عليها المجتمع".

يقارن جبار في حديث لـ"ألترا عراق، بين آلية التعامل مع المشاكل قبل 2003 وبعدها، قائلًا أن "الكثير كان يترفع عن صغائر الخلافات خاصة تلك التي تقع في الحي بسبب الأبناء والتي تنتهي بتوبيخهم وجلسة بسيطة، فيما قد تكون اليوم أبسطها سببًا في إشعال معركة أو بداية لضغينة وحقد بين أبناء الشارع الواحد".

ويعلل جبار التفاوت بين المرحلتين بـ"ضعف القانون والسلطة القضائية، فالجميع اليوم لا يشعر بقوة القانون ولا يؤمن به للحصول على حقه، فيما شهدت هذه الفترة انشطارًا في المنظومة الاجتماعية، حيث كانت الرابطة الأسرية راسخة بشكل كبير، بالإضافة إلى أن منظومة المشيخة في العشائر كانت أكثر تأثيرًا ما يضمن السيطرة على أفرادها".

مفاتيح الحلول

عقب أية مشكلة عشائرية تكون آليات الحلول واضحة، حيث يوجد في كل منطقة مجموعة من الأشخاص المؤثرين، وهم من عدة عشائرة يأخذون على عاتقهم التهدئة والشروع بحل المشكلة عبر تشكيل "مشية" ويتدخلون من ذاتهم لمنع تفاقم المشكلة بعد التواصل مع الطرف المخطئ وفق السياقات المتعارفة، وتكون الخطوة الأولى ليفرضوا هدنة مؤقتة "عطوة"، وتكون مشروطة، والأساس فيها منع أية مواجهة.

شهدت فترة ما قبل 2003 مصطلح "شيوخ الـ90" نسبة إلى قرار رئيس النظام السابق صدام حسين في تسعينيات القرن الماضي بشأن تسمية شيخ لكل عشيرة

للوجهاء مواصفات وهم على أكثر من مستوى بحسب نوع النزاعات، هناك شيوخ العشائر العامين، وهؤلاء لا يتدخلون إلا في المشاكل الكبيرة، والتي يكون فيها قتل والوضع متأزم، ومساحة عملهم لا تقتصر على مناطقهم حيث يتنقلون إلى محافظات البلاد كافة، بالإضافة إلى الخط الثاني من الوجهاء وهم شيوخ البطون الرئيسية في العشيرة "الفخذ"، وهؤلاء يتدخلون في جميع المشاكل، فضلًا عن مرافقتهم النوع الأول.

اقرأ/ي أيضًا: دولة العشائر.. بين فقدان الشرعية واستثمار الهوية

تشترط الأعراف العشائرية أن يتقدم كل "مشية" وجيه ينتهي نسبه إلى النبي محمد "سيّد"، وهو من يفتح الحديث ومن ينهيه، ويحظى "السادة" بمكانة اجتماعية هي أقرب إلى "التقديس"، وقد يفرضون رؤيتهم ويضغطون على جميع الأطراف للوصول إلى "تسوية".

وجهاء بعد 2003

تفرز كل مرحلة معايير تحديد الوجيه، حيث شهدت فترة ما قبل 2003 مصطلح "شيوخ الـ90" نسبة إلى قرار رئيس النظام السابق صدام حسين في تسعينيات القرن الماضي بشأن تسمية شيخ لكل عشيرة، ويرى مراقبون أنه تمت تسمية الكثير وفقًا لعلاقتهم مع السلطة في محاولة للسيطرة على العشائر من خلال ضمان ولاء الشيوخ، خاصة وأن نظام صدام حسين تضعضع في مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية.

فيما شهدت فترة ما بعد 2003 انشطارًا "أميبيًا" في أعداد الشيوخ، حيث شهدت معظم العشائر انشقاقات في داخل "الفخذ"، ليكون لكل مجموعة صغيرة شيخًا يتصل بالشيخ العام مباشرة، فيما حافظت إلى حد ما، المشيخة العامة على مكانتها دون دخول منافسين من رجال العشيرة ذاتها، لكون الأمر يتعلق بتاريخ وجذور أكسبتها شرعية في المجتمع.

في السياق يشكو "م ق"، في حديثه لـ"ألترا عراق"، من كثرة الشيوخ وتعددهم، عازيًا ذلك إلى "تغيير المرحلة والمعايير فالأمر لا يتطلب أموالًا كثيرة توفر ملبسًا أنيقًا وسيارة حديثة ويفضل أن تكون (لاندكروز) وصوت جهوري، بالإضافة إلى ديوان فخم يكثر ضيوفه"، لافتًا إلى أن "المجتمع تغيّر فأصبح يحترم كثير الكلام الذي يجادل بعيدًا عن الحق، ويستخدم بعضهم العلاقات وغياب القانون لتحقيق مطالبه حتى أصبح الثناء على أحدهم يقتصر بكونه "خوش يسولف"".

أضاف "م ق" وهو شيخ عام لعشيرة معروفة، ورفض الكشف عن أسمه تجنبًا للحرج، أن "شيوخ العموم حافظوا على مكانتهم ونادرًا ما تجد دخلاء في صفوفهم، حيث نعرف في كل محافظة أسماء محددة تتزعم العشائر ويقصدهم الجميع في حال حدوث مشكلة، وهذا يسهل علينا التواصل معهم للوصول إلى حلول في المشاكل"، مستدركًا "لكن المشكلة في مدعي المشيخة على الأفخاذ الفرعية حيث يصعب حصرهم، وعند ذهابنا في مشكلة نستغرب من يقدم نفسه الشيخ أبو فلان الفلاني، هذا سابقًا غير موجود، مبينًا أن "الشيخ يعرف نفسه باسمه الكامل وصولًا للشخص المعروف في عمود نسبه، ولا يمكن هنا الطعن بمشيخته أو بمكانته لأنه يأزم الوضع لذلك نسايرهم للوصول إلى حلول".

الشيوخ الجدد يستخدمون من قبل السياسيين للصعود في الانتخابات والتأثير على وعي الناخب في اختيار بعض الكتل التي تعتبر من أعمدة نظام المحاصصة في العراق

تابع الشيخ أن "تلك التغيرات زادت من تعقيدات الحلول، حيث أن الدخلاء غير منضبطين بالمنظومة المتعارف عليها، ويحاولون فرض رغباتهم بشروط تعجيزية وطلب مبالغ كبيرة"، لافتًا إلى أن "الشيوخ الجدد يستخدمون كذلك من قبل السياسيين للصعود في الانتخابات والتأثير على وعي الناخب".

"شيوخ" عشائر للإيجار

لا ينتمي جميع الافراد إلى المنظومة العشائرية خاصة سكان المدن، سيما الشباب الذين انتهى تواصلهم مع عشائرهم بموت جيل الآباء، لكنهم وسط هذه الفوضى ولجوء الكثير للعشائر يحتاجون إلى تفعيل هذا الانتماء، والكثير منهم لا يجدون التفاعل من عشائرهم لانقطاعهم عنهم أو يحتاج الأمر لفترة تطول قياسًا بالمشكلة، فيلجأون لإيجار شيوخ.

اقرأ/ي أيضًا: جئناكم بالعشائر والميليشيات.. ماذا عن الديمقراطية والدولة؟

يشير خالد الموسوي في حديثه لـ"ألترا عراق"، إلى أن "استئجار الشيوخ يوجد في بغداد بشكل واسع"، مقللاً من انتشاره في المحافظات الجنوبية، عازيًا ذلك إلى أن "المنظومة العشائرية متداخلة في الجنوب وفي حالة وجود أي خلاف تبحث الأطراف المتنازعة عن أصول بعضهم ويحاولون معرفة الوسطاء الأكثر تأثيرًا بالإضافة إلى شيوخهم".

أضاف الموسوي وهو وجيه إجتماعي في جنوب العراق، أن "هناك شيوخًا ووجهاء معروفين في الجنوب ولهم خبرة ودراية في التفاوض والوصول إلى التسويات، فضلًا عن كون توسطهم في معظم المشاكل جعل الكثير من الناس مطالبين برد الجميل لهم في حالة كانوا أصحاب حق".

تابع الموسوي أن "هؤلاء الشيوخ يأخذون الأموال لكن بسياق مختلف عما نسمعه في بغداد، لأن أغلب وقتهم يسخر في حل المشاكل العشائرية ويتدخلون بصفة وسطاء، فيتم منحهم مبلغًا كهدية غير محددة، وقد يشترط البعض وتتراوح الهدايا غير المشروطة بين 200 إلى 500 دولار"، لافتاً إلى أن "الفصل العشائري لا يدفع دفعة واحدة، حيث يتم تحديده في الجلسة العشائرية ويعطى جزءًا منه ويتفق على آلية لتسديده، وعند تسديد كل دفعة ترسل بيد وسيط يحاول تخفيض المبلغ وهناك وسطاء يأخذون نسبة من المبلغ المخفض".

في السياق يروي  سلام حسن قصته مع استئجار الشيوخ قائلًا "لدي زميل في العمل دخل في شراكة بمشروع تجاري مع شخص ولأسباب عديدة فشل المشروع، مستدركًا "لكن الشريك استغل ثقة زميلي وامتنع عن إجراء حساب نهائي لمعرفة التفاصيل، وزميلي من منطقة بعيدة عن أجواء العشائريات وكل ما يعرفه عن عشيرته هو لقبه في هوية الأحوال المدنية".

هناك شيوخ عشائر يستأجرون لابتزاز الناس وأخذ أموالهم ولا يهمهم إذا كان مستأجرهم صاحب حق، المهم أنه يدفع الأموال

أضاف حسن في حديث لـ"ألترا عراق"، "بعد فشله في الوصول إلى حل مع شريكه وتأكيد محامين صعوبة حسم القضية أمام القضاء لعدم وجود أوراق تثبت الشراكة وتفاصيلها، سألني عن إمكانية تأجير شيوخ عشيرة يستنجد بهم كوني من سكان مناطق شرق بغداد".

تابع حسن "بعد سؤال أصدقاء في المنطقة ارشدوني إلى مقهى يجلس فيه أناس يقدمون خدماتهم العشائرية المتنوعة، المطالبة بحقك، الجلوس أمام خصمك، التهديد، تنفيذ الدكة العشائرية، الخطوبة"،  لافتًا إلى أنه "ذهب بصحبة زميله وجلسا في المقهى وبعد التحية بدت العروض تقدم لكنهم كانا يسألان عن شخص محدد وهو أبو علي الناصري".

اقرأ/ي أيضًا: سياسيو العراق.. اذا بَطُلتِ الطائفية حضرت العشيرة!

أشار حسن إلى أن "أبو علي الناصري شاب في الثلاثينيات من عمره فارع الطول، أسمر البشرة ويرتدي الزي العربي، وتتراصف في كفيه مجموعة من المحابس مع مسبحة بخرز كبيرة، طلب معرفة كل التفاصيل وأخذ معلومات شريك زميلي وعنوانه، بعد إجراءه اتصالات عديدة عرف معلومات عنه وعشيرته"، مشيرًا إلى أنه "طلب ثلاثة ملايين  للتدخل مشترطًا أن تكون صفة زميلي "ذَبّاب جرش" مع عشيرة الناصري".

"ذبّاب الجرش" هو من يخرج من عشيرته أو يتعذر عليه التواصل معهم فيدخل في عشيرة أخرى تقع عليه واجبات وله حقوق كسائر أبناء العشيرة.

تابع حسن "بعد يومين ذهب الناصري ومجموعة من الأشخاص هو يعرفهم، وتواصلوا مع الشريك، كانت أصواتهم عالية ويتكلمون بحزم مع تلميحات بالتهديد، كأنهم يدافعون عن حقوقهم فعلًا، الأمر الذي أجبر الشريك على الجلوس إلى الجرد النهائي وإعطاء كل ما عليه، بالإضافة إلى تحميله جزء إضافي من الخسارة وفرض شروط أخرى"، لافتًا إلى أن "هؤلاء الشيوخ لا يهمهم في ما إذا كان مستأجرهم صاحب حق، المهم أنه يدفع الأموال".

وكان مجلس وشيوخ عشائر مدينة الصدر شرقي بغداد قد حذر من تنامي ظاهرة "استئجار الشيوخ" لفض النزاعات العشائرية.

 قال عضو المجلس الشيخ صدام زامل  العطواني في بيان تابعه "ألترا عراق"، إن "ظاهرة استئجار شخصيات تدعي انتمائها للحضور العشائري انتشرت في الآونة الأخيرة، وهم في الحقيقة دخيلين على المجتمع"، مطالبًا الجهات الأمنية بـ"اتخاذ خطوات جادة للحد من تنامي هذه الظاهرة التي لوثت العادات والأصول والتقاليد العشائرية".

كان مجلس وشيوخ عشائر مدينة الصدر شرقي بغداد قد حذر من تنامي ظاهرة "استئجار الشيوخ" لفض النزاعات العشائرية

أضاف العطواني أن "إصلاح ذات البين وهو أساس لإصلاح النسيج الاجتماعي وليس للتجارة واستغلال أوضاع الناس، معتبرًا "صفة الشيخ صاحب "حظ وبخت" كما هو متداول في مجتمعنا ولا يجوز استغلال هذا لمصالح شخصية أو لكسب المال".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

يد القبيلة الخفية في العراق.. خزان السلطة الموازية

ضابط محتجز.. هدده معمم وحمته العشيرة!