23-يناير-2020

قدم الشباب في انتفاضة تشرين حياتهم من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة (AFP)

كيف ندرك الحاضر- وهو حاضر بالغ الخصوصية - إذا نحن اتسمنا بخط تفكير، تكوّن في الماضي.. وهذا هو حال الفئات الاجتماعية التي تعبّر - بأوجه معينة- عن أرقى مستويات الحداثة، بينما تكون متخلّفة أيّما تخلّف في أوجه أخرى، بحكم موقعها الاجتماعي، فيتعذّر عليها بالتالي تحقيق استقلالها التاريخي الناجز. غرامشي- قضايا المادية التاريخية.

بما أن الدافع الأكبر لتنظيم الصدريين هو "عبوديتهم"، فينبغي أن يكون هذا دافعًا كافيًا وملهمًا بنفس الوقت لأن تدفعنا حريتنا نحو التنظيم. فبالتالي سيحدث التمايز المؤمّل والمنشود بين تنظيمات دينية وبين تنظيمات طوعية تتخذ من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان خارطة طريق للوصول للسلطة.

من أطلقوا على أنفسهم "مدنيين"  لم يعترفوا بفشلهم حتى هذه اللحظة، بل اقتصرت هذه الجماعات على ترميم فشلها ورميه على الصدريين

إن التنظيمات الطوعية، مثل الأحزاب، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني، تعطينا مؤشرًا مهمًا لتحديد السمات الأساسية للمجتمعات الحديثة وطبيعة الصراع التي تتبلور فيها، ونوع المنظومات الفكرية التي تفرزها. إذا استطعنا التأسيس لمثل هذه الهياكل التنظيمية الحديثة، فعندها ستنطلق في العراق رحلة جديدة، تصنع تاريخًا مختلفًا للعراقيين.

اقرأ/ي أيضًا: منافسة الصدريين: شعارات بلا عمل

غير أن هذه التنظيمات لا زالت في دائرة الغيب، فهي إمّا أن تكون معظمها مُمَوَّلة من جهات خارجية، أو تفشل في عملية الصراع كونها بذور وُضعت في أرض عصيّة على مثل هذا الثمر! لكنّه ليس مبررًا كافيًا لترك الأمر كليًا، وإنما السعي الحثيث لفتح إمكانات جديدة في الحراك الاجتماعي والسياسي، بدلًا من تبادل التخوين فيما بيننا.

إن هذه المحاولات تمنح الجماهير المستقلة فسحة وأمل جديدين لتمثيلها ديمقراطيًا في المستقبل، لكي يكون لكل هذه التضحيات المقدسة نتيجة إيجابية، قبل أن يتم نسيانها، ذلك أن العراق بلد الشهداء والأرامل واليتامى المنسييّن!

 منذ خمس سنوات أجادل حول قضايا التنظيم، وكان يومها "المدنيون" الذين فشلوا فشلًا ذريعًا أمام المد الصدري الكاسح من جهة، ولعدم اندماجهم في كتلة سياسية مُنظمة وتشرذمهم من جهة أخرى. المفارقة المضحكة أن من أطلقوا على أنفسهم "مدنيين" لم يعترفوا بفشلهم حتى هذه اللحظة، بل اقتصرت هذه الجماعات على ترميم فشلها ورميه على الصدريين. للصدريين دور كبير في اكتساح الساحة، والميليشيات التي دخلت على الخط يومذاك، لكن كما تعلمنا في ثقافتنا، إننا نسرد ربع الحكاية والأرباع الثلاثة الأخرى يبتلعها الكذب الصريح على النفس، ونتناسى حقيقة مفادها: إننا كنّا مشرذمين، تسحقنا الأنانيات الشخصية، ولا يكاد شخصان يتفقان على أمر، وكنا منشغلين بتميّزنا الفارغ والمضحك.

 أثبتت الأيام أنه لا يوجد أي تميز حتى بمستوياته الدنيا، بل أن الكثير منّا هو إلى الشعبوية والحماس أقرب منه إلى العقلانية. إن أسهل طريقة لتبرير فشلك هو رميها على الآخرين لتغدو "ضحية" بعين الناس لكسب المزيد من التعاطف وترميم الخيبات النفسية المؤلمة.

 لماذا لم (ولن) يجلس هؤلاء مع أنفسهم على الأقل ليسألوا هذا السؤال: لماذا أصبحنا موضوعًا للسخرية والتهكم، وخسرنا ثقتنا التي منحتنا أيّاها الجماهير يومذاك؟ هذه الجماهير التي تقود انتفاضة تشرين، وأعلنت رفضها للصدرين كشركاء لأنها جماعات غير طوعية، وأعلنت رفضها كذلك لكل من يحاول التسلّط على هذه الانتفاضة، خصوصًا ممن كانوا طرفًا في حراك 2015.

لا توجد مثل هذه المكاشفة وسط ثقافة تبدي مقاومة شرسة لكل شكل من أشكال المكاشفة والصدق مع الذات. ما يوجد هو أفراد فحسب يُعدَوَن على أصابع اليد، والمحزن في الأمر أنهم تركوا الساحة والصراع لأنهم لا يحظون بمثل نجوميتنا التافهة، ويخشون على أنفسهم من عمليات التسقيط المجانية التي تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعي، فاحتفظوا بعقلانيتهم ضمن حياتهم الخاصة. لكن للأسف الشديد أن العقلانية ليست سلعة يمكنك إخفائها، بل هي فضيحة بكل معنى الكلمة! إن عملية البلورة النقدية هي الوعي الفعلي للذات "أعرف نفسك بنفسك" كما يصفها غرامشي، ومن دونها تبدو كل إدعاءاتنا هي ثرثرة مملة ومنفّرة للذهن.

إن ركوب الموجة تحت يافطة "نحن نختلف عن الصدريين" لم تعد بضاعة مغرية في سوق الأوهام العراقي

 نحن ننتظر الأحرار والتقدميين أن يثبتوا لنا أن العراق يخضع لسياقات المجتمعات الحديثة، الذي يكون فيه أصل الصراع قائم على منظومة أفكار تحاكي سياقها المتقدم بكل المستويات عن حالتنا الراهنة. وقبل كل شيء، أن يثبتوا لنا عقلانيتهم في السلوك. لقد تعلمت الناس أن لا تسلّم رقابها للفراغ، وأن لا ترتهن بجماعات ليست لديها القدرة من عدم الانجرار وراء انفعالاتها. إن ركوب الموجة تحت يافطة "نحن نختلف عن الصدريين" لم تعد بضاعة مغرية في سوق الأوهام العراقي. أثبت ذلك في سلوكك السياسي ومشاركتك في السلطة لكي يمكننا التميز بأريحية كاملة، وبخلاف ذلك يمكنك أن تستمتع بهذه النغمة بخلواتك الخاصة.

اقرأ/ي أيضًا: التنظيم السياسي.. وقاية من الدكتاتورية المضادة

 من المعلوم أنه كلّما أثبتنا أن نسبة الأحرار أكثر من "العبيد" سيكون هذا مسوّغًا كافيًا للإسراع بعملية التنظيم، وإن الأغلبية الشعبية الحرّة ستدعمنا انتخابيًا على ضوء البرامج التي نعلن عنها.

 سيقال إن المهمة صعبة، وهذا صحيح،. لكن لا توجد مأساة وصعوبة أكثر ترويعًا من أن يجود الإنسان بحياته طلبًا للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهذا ما فعله بالضبط أحرار تشرين حينما قدموا حياتهم قربانًا على مذبح الحرية، فيما نحن منشغلون بتصنيف الصدريين، وهم في كل حدث يثبتون هيمنتهم على المشهد الاجتماعي والسياسي، ونحن نكتفي بالتشكّي والتبرير، بينما انشغل الشهداء بغير ذلك! لا أريد ذكر الشهداء كثيرًا خشية على تاريخهم المقدس، وأن لا يكونوا بضاعة مُستَهلَكَة نطرّز بها نصوصنا لنتلقّى عبارات المديح والثناء، والفوز بالقرب من قلوب الجمهور، وهذا ما يفعله الانتهازيون بالتحديد: أكتب شيئًا يدغدغ وجدان الناس لتغدوا مقبولًا عندهم.

إن الانشغال بالصدريين لن يغير من المعادلة شيئًا، أو يضعف نفوذهم، أو أن وصف الصدريين بأنهم يخرجون رهنًا لإشارة قائدهم وليسوا أحرارًا في ذلك، كما لو أنها معلومة عظيمة!

المشكلة أنه لدينا الإمكانية لاستباحة كل تداعياتنا النفسية ونطلق لها العنان في ذم الصدريين، غير أن آلهتنا تصاب بالخرس والصمم حينما يأتي دورنا في نقد الذات، ونكتفي بشكوانا الطفولية الأقرب لأنفسنا، والتي حفظناها عن ظهر قلب.

بعيدًا عن مرض اجترار التاريخ والتخوين المتبادل والعنف اللفظي المستمر بين بعض فئات المجتمع العراقي، فمن الغباء ومن المحزن أن لا نأخذ العبرة من كل ما يحصل ونكتفي بخصومات شخصية تافهة، تعطينا مؤشرًا لافتًا من أن الهمجية لا زالت عادة محببة لدى الكثير منّا.

لا توجد مأساة وصعوبة أكثر ترويعًا من أن يجود الإنسان بحياته طلبًا للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهذا ما فعله بالضبط أحرار تشرين

 ربما ذكائنا المفرط يمنعنا من رؤية الأشياء كما هي! لكن القليل من البساطة ستوضح لنا جليًا الدوافع والمقاصد التي تدفعنا للكتابة في مثل هذه الأمور وأخذ العبرة من التاريخ. إن التاريخ لا يرحم الغافلين، وهو أشبه بحلبة سباق، وسيفوز فيه بكل تأكيد من هو أكثر قابلية للجري لنهاية المطاف، والمتفوقون عادة لا ينتظرون من تأخر في هذا المضمار. هذه هي اللعبة، فاستيقظ من النوم أيها الغافل!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

انتفاضة تشرين.. جيل اليوم في مواجهة النظام الطائفي

الحراك المضاد لانتفاضة تشرين