13-مايو-2016

الجزئر، جسر في قسنطينة (Getty)

من يشبع من المال في هذا العالم، خاصة في أفريقيا والمساحة العربية؟ فمن أجله شُنّت حروب واقترفت كوارثُ في حق المكان والإنسان، وأبيدت قيم وممتلكات وحقوق، فما بال الجزائر زاهدة فيه ومكتفية بما يدرّه عليها النفط، وهي القادرة على أن تحظى بالضعف على الأقل، لو فعّلت آلتها السياحية الرهيبة؟ ما يمنعها من ذلك وهي القارّة التي تتوفر على الفصول الأربعة في اليوم نفسه؟ اركب الطائرة من الجزائر العاصمة إلى أقصى نقطة في الجنوب، ما يزيد عن 3000 كيلومتر، فسترى الفصول كلها، بل إن هناك مناطقَ تختصر لك الفصول من غير أن تقطع هذه المسافة أصلًا.

اركب الطائرة من الجزائر العاصمة إلى أقصى نقطة في الجنوب، ما يزيد عن 3000 كيلومتر، فسترى الفصول كلها

كنت في مدينة عنابة شرقًا، وراودني هذا السؤال، في ظل سطوة جمالها علي، كانت ساحرة بما يجعلها جديرة بأن تستحوذ على النفوس والنصوص: لماذا يترك الجزائريون هذا كله ويقصدون الفضاء التونسي الذي لا ننكر جماله، لكنه ليس متفوقًا على ما نملك؟ تقول الإحصائيات إن هناك مليوني جزائري يقضون عطلتهم الصيفية في تونس، علمًا أن السائح الجزائري من أكثر السياح في العالم إنفاقًا، ولو كانت الحدود مفتوحة مع المغرب لحظيت هي الأخرى بالعدد نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: تحرير سرت.. معركة "الإخوة الخصوم"

الإجابة على هذا السؤال جاهزة طبعًا، يجد الجزائري في تونس الاستقبال اللطيف والفندق النظيف والتسعير الخفيف، والصحن والكأس الكريمين، والحرية في الخطوات والرغبات والأمن المرافق لذلك كله، لكن ما يمنع أن يتوفر هذا في الفضاء الجزائري؟ يُفترض أننا تجاوزنا مرحلة تكريس السياحة الداخلية، بما يحفظ "زيتنا في دقيقنا"، إلى مرحلة استقطاب الملايين من سياح العالم نحن الذين تعانق الصحراءُ لدينا البحرَ، ويزخر تراثنا المادي واللامادي بما يُلخص عمرَ التاريخ.

هل كنا سنعاني ما نعانيه من بطالة لو فعّلنا السياحة بما يجب؟ هل كان أجرنا القاعدي يبقى هزيلًا بهذا الشكل الذي تنافسنا فيه دول أفريقية تعيش على إحسان العالم؟ هل كنا سنخضع لإكراهات هبوط أسعار النفط، حتى بات قرارنا السياسي والاقتصادي مهددًا بالتبعية مجددًا؟ هل كنا سنضطر إلى تقشف متعسف حتى نضمن الحد الأدنى من التسيير والتعمير والمعيشة؟ ما بال عدد السواح لدينا يكاد يساوي عدد عمال وزارة السياحة، وما نجنيه من عائدات يقل عن الميزانية التي يستهلكها هؤلاء العمال؟

ما معنى أن يأتي وفد من 250 مريدًا أفريقيًا للطريقة التيجانية الصوفية، ليزور مسقط رأس مؤسس الطريقة في منطقة عين ماضي، ومكان خلوته في منطقة بوسمقون، ولا يجد فندقًا واحدًا في مكان يحلم بالحج إليه ما لا يقل عن 180 مليون تيجاني في العالم؟

اقرأ/ي أيضًا: سجّل أنا متطوّع

ما بال عدد السواح في الجزائر يكاد يساوي عدد عمال وزارة السياحة، وما نجنيه من عائداتٍ يقل عن الميزانية التي يستهلكها هؤلاء العمال؟

كان هذا الوضع السياحي الجزائري المزري قابلًا للتفهم، في ماض جزائري قريب كانت تزهق فيه النفوس وتقطع الرؤوس، وماض عربي قريب كان يشهد منافسة شرسة من بلدان عربية رائدة في هذا الباب، فما باله بقي على حاله في ظل حاضر جزائري يسوده الأمن، وحاضر عربي تسوده الحروب في الدول المنافسة سياحيًا؟ لماذا تحوّلت خزانات السياحة في مصر وسوريا والعراق مثلًا إلى تركيا، ولم تعمل الجزائر على الاستفادة منها، بل إنها انضمت في العقد الأخير إلى قائمة الدول الأكثر إرسالًا للسياح إلى بلاد العم أردوغان؟

طرحتُ بعض هذه الهواجس في جلسة سابقة على أحد وجوه وزارة السياحة والصناعات التقليدية التي لا تحصي أكثر من خمسين ألف سرير على المستوى الوطني، فقال لي إنه من حظ الأجيال القادمة أن تبقى المناطق السياحية عذراءَ في الجزائر، لأنها ستستلمها بالموازاة مع نفاد البترول الذي يقول الخبراء إنه وشيك الحدوث. قلت له: لو كانت هذه نيتكم في تعطيل السياحة، لحافظتم على آثار البلاد التي تنهار وتسرق وتهدم في صمت مشبوه، حتى ترث هذه الأجيال ما يجعل السياحة في زمنها مثمرة، إذ كيف تبرر صمتكم على تداعي معظم قصبات الجزائر، وإن حدث أن تحركتم تحت ضغط معين، فمن خلال ترميمات مرتجلة لا يقترفها حتى الرعاة؟

من أبشع المشاهد التي واجهتُها هذه الأيام اختراق طريق معبّد للمسرح الروماني في مدينة عنابة، مما أفقده روحّه وعطّل وظيفته السياحية، علمًا أن هذا الطريق ثانوي تمامًا، حتى إنه يمكن الاستغناء عنه، وحين نقلتُ صورة الجريمة إلى الإعلام، قيل لي إنك متعسف بإهمالك معطى أنه طريق منذ العهد الفرنسي. هب أنه كذلك، من باب أن فرنسا أنجزته قبل اكتشاف المسرح، فما دفع حكومة الاستقلال إلى الإبقاء على الطريق بعد هذا الاكتشاف، وترميمها له قبل سنوات قليلة؟ لماذا يُهللون لاكتشاف بئر نفط، ولا يعني لهم شيئًا اكتشافُ معلم تاريخي؟

اقرأ/ي أيضًا:

بيروت مدينة من؟

البلاليع".. مهد الطاعون ومقبرة الطغاة"