30-أكتوبر-2019

المتظاهرون رفعوا شعار "نريد وطن" في ساحة التحرير والمحافظات (Getty)

"أيّها القناص!، أنا الشهيد القادم!"  شعار سائق "التوك توك".

ما الذي يمكن أن يحفظه التاريخ لسلطة الخضراء وهي تكافح لسلب آخر ما تبقّى من هذا الوطن؟ يخرج الفقراء والمعدمين يطالبون بوطن ضاع وتمزق على يد مافيات الفساد التي تعمل أمام مرأى ومسمع كل المراقبين، لكن من يجرؤ على الكلام في ظل دولة عميقة تهمين على كل مفاصل القرار السياسي في هذا البلد المنكوب؟

ما هي السلطة المهيمنة على جماعة الخضراء التي استطاعت شلّ الحركة الصناعية نهائيًا في العراق، وتحويل مصانع العراق إلى خردة تباع بأبخس الأثمان؟

 طبعًا لا أعني هنا بالدولة العميقة مجموعة من أصحاب القرار الحكماء والكفوئين، بل أعني مجموعة ممّن يُضمَن ولائهم في ساعات الشدة، أي أنهم في حالات الطوارئ يقدمون مصالح الخارج على مصالح البلد القومية، ومن هنا يبلغون الحظوة والجاه والمكانة الرفيعة عند السفارات الأجنبية، فيكون البلد من هذه الناحية أداة تكتيكية مهمة!، يصلح أن يكون حديقة خلفية، أو مفقس عظيم للبيوض الذهبية، والثروات الطائلة التي لم يكونوا ليحلموا بها، وبهذه الطريقة يغدو وجودهم في هذا البلد هو تصفية حساب وثأر كبير لتدمير البلد واللعب بمقدراته.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. فرصة لتقييم الذات

وللتأكد من هذا الكلام، إذا ما كان كلامًا إنشائيًا، وخاليًا من المعنى؛ فليرى حجم الثروات، وقضايا الفساد، ومدى خراب البنية التحتية، وشلل أي رئيس وزراء عن المضي بأي حركة تقدمية، ولماذا حتى هذه اللحظة لم تشرع السلطة ببناء البلد وتشييد البنية التحتية المتهالكة.. الخ. فليتأكد جيدًا ثم يسأل نفسه: ما هي القوّة التي تجبر هذه السلطة كل هذه الفترة عن إنجاز مهماتها وبناء البلد واستثمار ثرواته الهائلة؟

سيقال هنا وبسرعة: إنه الفساد الإداري الذي يعيق كل هذه الخطوات. وفي الحقيقة، إن أكبر فساد إداري في بلد ما يمتلك كل هذه الثروة لا يمنعه، على الأقل، من توفير الماء الصالح للشرب!، أو توفير مقاعد دراسية لطلبة الابتدائية. ولا ننسى أن الفاسد واجبه أن يغطي على فساده من خلال إنجاز شيء ما للتغطية على مخازيه، غير أن الحال في العراق يجري عكس المطلب، فالأمر - بتقديري- أكبر من قضية فساد إداري.

 فلنضرب مثالًا حيويًا: لماذا يتم توفير استثمار النفط من قبل الشركات العالمية، ويجري هذا الأمر بيسر وسهولة وانسيابية، بحيث لم نسمع أي تلكؤ يصل لمرحلة توقف صناعة النفط في العراق؟ لا بل ستستقتل كل الأطراف الخارجية والداخلية لاستئناف العمل بسرعة قياسية إذا ما تعرّض أي مشروع نفطي للخطر. وكم كنت أتمنى أن تتعامل هذه الجماعة مع العراقيين كما لو أنهم حقول نفطية!

فلنضرب مثالًا آخر؛ ما هي القوة الإدارية التي أنجزت بناء كل هذه المؤسسات الأمنية الضخمة والمحترفة في غضون فترة وجيزة، إذا ما قارنّاها بأي بلد يسعى لبناء قواته الأمنية؟ بل أكثر من ذلك: لماذا تم تجهيز هذه القوات الأمنية بأحدث التقنيات والأسلحة والمعدات وغيرها، في حين عجزت عن تبليط طريق خارجي - كطريق بغداد كربلاء مثلًا - أسوة بطرق أربيل الداخلية على سبيل المثال؟ ما هي السلطة المهيمنة على جماعة الخضراء التي استطاعت شلّ الحركة الصناعية نهائيًا في العراق، وتحويل مصانع العراق إلى خردة تباع بأبخس الأثمان؟

الأسئلة المريرة عن ثروات البلاد وتراجعها جعلت من شبّان بعمر الورود يستقبلون رصاص القناصين، والقنابل المسيلة للدموع لاحقًا، ويتساءلون بكل براءة "أين حقي"؟

 طبعًا، أنا هنا لا أتكلم عن مؤامرة والعياذ بالله، وإنما أتكلم عن واقع وحقائق لا يجهلها أصغر "مواطن" في هذا البلد. في مثل هذه المصيبة تغدو المؤامرة أضحوكة، ذلك أن الواقع أصدق أنباء من الكتبِ، وأكثر إفصاحًا من نواب البرلمان المتحذلقين. فعلينا أن نبحث عن الإشكالية الأعمق، والتي هي، بتقديري الشخصي، قضية الاستقلال الغائبة على جماعة الخضراء، والتي لا تهمهم لا من قريب ولا من بعيد. غياب الاستقلال يعني تصفية الحسابات ببرود وبحرفية عالية!

اقرأ/ي أيضًا: الثابت والمتحوّل في احتجاجاتنا: دروس للمشرق العربي

هذه الأسئلة وغيرها جعلت من شبّان بعمر الورود يستقبلون رصاص القناصين، والقنابل المسيلة للدموع لاحقًا، ويتساءلون بكل براءة "أين حقي"؟، لماذا يبقى العراق مُقدرًا له أن يحاط بقوة خارجية مهيمنة تتحكم بقراره السياسي، وتحوله إلى بندقية للإيجار. كل هذا وذاك جعل صرخة الشباب أشد إفصاحًا من كل ما كتبناه طوال هذه السنين، ونحن نكتب "مواعظ" باردة عن نكران الذات وأهمية التضامن، وضرورة التنظيم، وأن الديمقراطية عملية جوهرية بكل حراك احتجاجي، وأن العَلمانية شرط  جوهري في بناء الدولة.

والحقيقة الجليّة، أن معظم ما كتبناه لم يقرؤه هؤلاء الشجعان، بل حتى لو اطلعوا عليه، فأحسبهم سيغرقون في بحر من الحذلقة يعقّد عليهم المشهد كثيرًا. هؤلاء الآن يكافحون بشراسة عز مثيلها في منطقتنا العربية، ويطالبون بحقوقنا وحقوق كل الفئات المحرومة، لقد صنعوها بأنفسهم من غير وصاية، وصرخوا بأعلى أصواتهم: "نريد وطن"!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

جيل "البوبجي والعطواني": نقطة التحوّل الوطني!

"لا علمانية ولا دينية".. عراقية هويتها الحقوق!