18-أغسطس-2021

مثلت عمالة الأطفال ظاهرة أشارت إليها سجلات بلاد ما بين النهرين (Getty)

يشكّل الأطفال جزءًا بالغ الأهمية من أيّ مجتمع. لكن معنى الطفولة يختلف من مجتمع إلى آخر، لتختلف أساليب رعايتهم وتربيتهم ووضعهم القانوني وظروف حياتهم العامة من حضارة إلى أخرى، بوصفها مفهومًا سياسيًا واجتماعيًا فضلاً عنها كمرحلة بيولوجية في التنمية البشرية.

وظّفت المعابد والقصور السومرية أطفالاً من الطبقات الاجتماعية المحرومة

ولم تكن الحضارة السومرية استثناءً من ذلك، كما يؤكّد الباحث العراقي عادل هاشم علي في كتابه "البنية الاجتماعية في العراق القديم"، مشيرًا إلى النصائح السومرية التي قدمها ملك شروباك وهو يعظ ابنه زيوسدرا، وصولاً إلى حكم ونصائح أحيقار التي قدمها إلى ابن أخته "نادن"، والتي كانت تبدأ بعبارة  (يابني)، ما يؤكّد على الاهتمام بالتنشئة والتربية في العراق القديم.

ولم يرد في حضارة العراق القديمة ما يدل على تفضيل المولد الذكر على الأنثى، حتى أن اللغة السومرية قد استخدمت مصطلح (DUMU) الذي يعني الطفل دون الإشارة إلى جنسه، حيث كانت الأم هي الراعية الأولى للطفل بينما ترك حق تسمية الطفل للأب.

وعلى أيّة حال يعتبر إنجاب الأطفال الغاية الأساسية من الزواج في الحضارة السومرية، وعلى الأطفال احترام والديهم، إذ كان ينظر إلى ازدراء الأب أو الأم كخطيئة جسيمة، ويُنظر إلى وحدة الأسرة كأمر بالغ الأهمية، وهو ما يعكس الطريقة التي كان يُعتقد أنّ الآلهة ترتبط بها وتحترم بعضها البعض وفقًا لها.

كما أنّ بيع الأطفال يتم فقط في ظل الصعوبات المالية الشديدة، وكان يُعد في كثير من الأحيان نذير شؤم. وقد عكست التهويدات الأولى والوصايا التي قدمها الأب السومري لابنه بوضوح بالغ على تربية الأبناء بشكل صالح: "لا تشتري حمارًا ينهق كثيرًا، لا تغتصب بنت الرجل، لا ترد على الأب ولا ترمقه بنظرة ازدراء".

ولم تدرس عمالة الطفولة في الحضارة السومرية بشكل كبير، وفقًا لعالمة الآشوريات الألمانية فيتالي باريش من جامعة ميونخ التي نشرت دراسة عن الطفولة في سومر، مشيرة إلى أنّ ما يقارب نحو 1500 رقيم طيني من مجموع 100 ألف مستخرجة من جنوب العراق، تعود للفترة من 3500 - 2000 قبل الميلاد، تركز على حياة الأطفال في ذلك الوقت.

رقيم طيني من أداب 2300 قبل الميلاد

لكن الصعوبة، بحسب فيتالي باريش، تمكن في دقة التفاصيل غير المتوفرة عن كيفية تنظيم المجتمعات الحضرية في جنوب بلاد ما بين النهرين، فغالبية الألواح المسمارية من سومر القديمة هي في الواقع حسابات اقتصادية وقانونية كتبت في المعابد والقصور التي لم تكن مجرد أماكن للعبادة أو مساكن للملوك، بل كانت مؤسسات معقدة ومراكز إنتاج وإعادة توزيع يديرها بيروقراطيون تلقوا تعليمًا ممتازًا في الكتابة والمحاسبة .

وفي دراستها للسجلات الطينية لاحظت عالمة الآشوريات الألمانية وجود ظاهرة اجتماعية، أشارت إليها السجلات الأرشيفية من بلاد ما بين النهرين، حيث وظفت المعابد والقصور السومرية أطفالاً من الطبقات الاجتماعية المحرومة، إذ لم يُترك الأطفال غير المحميين اجتماعيًا تحت رحمة القدر ليتجولوا في الشوارع متسولين. من ناحية أخرى، تم دعمهم كأطفال وكبار في نهاية المطاف كمصدر مهم للعمالة الرخيصة لاقتصادات المعبد والقصر.

وتظهر النصوص، أنّ هؤلاء الأطفال كانوا أبناء عبيد، وعمال شبه أحرار، وأسرى حرب، ومرحلين من الأراضي البعيدة، وأبناء مدينين، وأطفال مكرسين للمعابد، وكذلك أيتام ولقطاء، قامت المؤسسات العامة بإطعامهم وإيوائهم.

رقيم طيني من أوروك حوالي 3000 قبل الميلاد

كما يبدو أنّهم بدأوا العمل في سن الخامسة إلى السابعة. وربما يكون هذا هو أقرب دليل على عمالة الأطفال، فقد أدت ظروفهم المعيشية في بعض الأحيان إلى الفرار من هذه المؤسسات، حيث تسجل الوثائق أعدادًا كبيرة من الأطفال المتوفين، مما يعني ارتفاع معدلات الوفاة.

ويعود أقدم سجل للأطفال العاملين في القصور والمعابد إلى حوالي 3000 قبل الميلاد، الذي عثر عليه في مدينة أوروك، وفيه أنّ الأطفال بدأوا العمل من سن الخامسة وسن السابعة. وقد أشارت هذه السجلات أيضًا إلى فترة الرضاعة الطفل التي تمتد من سنتين إلى ثلاث سنوات.

وفي رقيم طيني آخر من مدينة أداب، دونت معلومات كثيرة عن نساء وأطفال جيء بهم من أرض سوبارتو (بالأكدية: سوبارتوم)، وهو الاسم القديم لمثلث استوطنه الحوريون وغالبًا ما استهدف الحكام من جنوب بلاد ما بين النهرين هذه الأرض في حملاتهم العسكرية.

ختم أسطواني من أوروك يشير إلى نساء عاملات

ومن المحتمل جدًا أنّ النساء والأطفال المذكورين في هذا النص كانوا من المرّحلين من شمال بلاد ما بين النهرين، فيما يشير السجل إلى غياب البالغين من الرجال، فقد كانت الممارسة المعتادة هي قتل الأسرى الذكور البالغين وأخذ نسائهم وذريتهم كعمال وموظفين في الاقتصاد العام في جنوب بلاد ما بين النهرين.

والأكثر إثارة للدهشة، أنّه و وفقًا للنص المسماري، يتم "تمييز" الأطفال من كلا الجنسين. وينتهي النص ببيان أنّ هؤلاء الأشخاص يجدون أنفسهم في "بيت مغلق" أو "معتقل"، ولا يعرف مصيرهم بالاعتماد على نصوص مماثلة، لكن يمكننا أن نخمن، كما ترى فيتالي باريش، أنّهم قد وظفوا في النهاية كنساجين أو في مطاحن أو للقيام  بأعمال يدوية أخرى لبقية حياتهم.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

اكتشافات أثرية جديدة جنوب العراق

آثار العراق بين "سقوطين".. إهمال الحكومة شاهد ثالث!