12-نوفمبر-2020

وصلت الديون العراقية الداخلية إلى 60 تريليون دينار (فيسبوك)

لا حاجة للمرء أن يكون خبيرًا ـ ولستُ متخصصًا حتى - في الاقتصاد ليُسلّم بعبثية الاقتصاد العراقي ومدى تشوهه وغياب الاستراتيجية عنه في أدنى مستوياتها، وليس أكثر مما وصلت إليه الدولة بعجزها عن دفع رواتب موظفيها دليلًا على ما نقول، بحكم أنها دولة تمتلك موردًا مثل النفط يغنيها عن جمع إيرادات من العدم كما يحصل في بعض البلدان.. فالمعروف؛ أن الدولة الريعية تبيع سلعها الجاهزة وتصرف الريع "على الرعايا" على اعتبار أن علاقة المواطن "الحديث" بالدولة "الحديثة" لا تقوم على هذه الأسس المتخلّفة.

يبدو مشهد النظام السياسي التوافقي توافقيًا حتى في المسألة المالية للبلاد وعلاقتها بالتوازنات الداخلية والخارجية

تقول الحكومة ومعها بعض السياسيين الذي يحاولون الإنصاف إن الأزمة المالية الحالية ليست وليدة اليوم بل هي نتيجة تراكم سنوات من سوء الإدارة والفساد؛ لكن ما لا يتم التركيز عليه كثيرًا هو مسألة الاقتراض بذاتها. نعم، اضطرت حكومة حيدر العبادي أن تلجأ للاقتراض بفعل الحرب وتراجع أسعار النفط، ومن الصحيح تعليل العجز الاقتصادي "الحالي" بالترهل الوظيفي والاعتماد على النفط، وتأثيرات الفساد .. إلخ؛ لكن لفظة الاقتراض لم تنشأ مع العبادي أو الكاظمي، بل مع رئيس الحكومة التي كانت بمثابة المؤسس للنظام الجديد والذي حَكم ثماني سنوات متتالية، أعني المالكي.

اقرأ/ي أيضًا: نص قانون الاقتراض الذي صوت عليه البرلمان.. متى ستصرف رواتب الموظفين؟

قدّمت حكومة المالكي موازنة عام 2012 – وكثيرًا ما نذكر هذا العام مثالًا – بعجزٍ قارب الخمسة عشرة تريليون دينار تُغطى من الاقتراض الداخلي والخارجي والمبالغ المدوّرة، رغم أن سعر برميل النفط المُحدد في الموازنة حُدد بمتوسط 85 دولارًا للبرميل، وخُتم نهاية العام من قبل أوبك بمبلغ يفوق 107 دولارات.

ولاختصار الفكرة المراد إيصالها، نقول، إن العجز في هذه الموازنة مساوٍ للمبلغ الذي طلبته حكومة الكاظمي مع الأخذ بنظر الاعتبار الميزانية الخاوية المستلمة (التدوير)، وإجراءات الإغلاق الخاصة بجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية وانهيار أسعار النفط العالمية، والضغوط الناجمة عن حزمة التعيينات الجديدة إضافةً للزيادة الضخمة في أعداد الموظفين وحجم النفقات التشغيلية بين تلك الفترة والآن، وهو مبلغ مقارب للذي اقترضته حكومة العبادي من صندوق النقد والبنك الدوليين ودولٍ أوروبية إبان الحرب على تنظيم داعش وبداية الأزمة الاقتصادية.

إن الفكرة المشاعة لدى أوساط السياسيين والاقتصاديين والمراقبين هي إقبال حكومتي المالكي (2006-2014) على إرهاق الدولة بالتعيينات والمشاريع الوهمية والإحالات والتراخيص والاستثمارات المليئة بالفساد وإهدار الميزانيات الانفجارية، ودليلُ ذلك الزيادة الهائلة في متوسط مدوفعات رواتب القطاع العام (143% في الفترة بين 2006 و2018) كما جاء في ورقة علي علاوي البيضاء؛ لكن السؤال الذي نود التأكيد عليه: لماذا يُستعان بالاقتراض ليسد عجزًا ماليًا في زمن الموازنات الضخمة وارتفاع أسعار النفط وبنفقات تشغيلية أقل؟... لسنا دعاةً لنظرية المؤامرة لكننا نسأل فحسب.

أتاحت القوى السياسية البرلمانية لحكومة الكاظمي رفع ديون العراق الداخلية والخارجية إلى 80 مليار دولار من غير الديون الخاصة بتبعات النظام السابق؛ لكنها انتفضت على مشروع قانون تمويل العجز المالي الجديد بادّعاء أنها ترهق كاهل الأجيال القادمة. ولأن التجربة لا تؤكد لنا حسن النوايا، فربما القضايا الانتخابية وما يتعلق بإتمام المشاريع المختلفة واستثمارها في الانتخابات، أسبابًا أكثر واقعية لرفض الاقتراض، أو أنها تُحاول تأجيل الاقتراض ومنع التخمة، إلى ما بعد انتهاء فترة هذه الحكومة (قرش أبيض ليوم أسود)، وقد بانت ملامح الصِدام حتى في فقرات قانون تمويل العجز المالي المرسلة من وزارة المالية (الحكومة) والمعدلة من المالية النيابية (مجلس النواب) وفي أدق التفاصيل.. وإلا لماذا يَرفضُ الاقتراض من جعل الاقتراض ضرورةً حتميةً؟

 من زاوية Political Economy، يبدو مشهد النظام السياسي التوافقي توافقيًا حتى في المسألة المالية للبلاد وعلاقتها بالتوازنات الداخلية والخارجية، حيث تصل إلى الرأس التنفيذي حكومةٌ تطلق التعيينات والمشاريع للأحزاب وقواعدها، وتفتح للجوار (إيران في الأساس) أبواب التجارة والاستثمار، فتأتي العاصفة الاقتصادية وتزاح حكومة هؤلاء "المقاومين" وتحل محلها حكومة طوارئ اقتصادية صديقة للمجتمع الدولي تفرض إجراءات تقشفية بمساعدة المؤسسات العالمية وتقترض ما تيسّر من دول وبنوك العالم، مستفيدة من شهادات الثقة التي تمنحها تلك المؤسسات، لتبقي الوضع الاقتصادي في البلاد على المحك دون انهيار، فتعود الكرّة ثانيةً كما حصل مع عادل عبد المهدي، الذي وزّع حصص الكتل السياسية وأغرق أصدقاءه في إقليم كردستان بالأموال، ثم عاث في الدولة فسادًا بمئات الآلاف وربما أكثر من  دفعات التعيين المفزعة دون تخصيصات مالية لها، محمّلًا من يأتي بعده مسؤولية صرف رواتبهم.

والملاحظة الواجبة الذكر، أن الحكومات ذات العلاقات الجيدة مع الغرب، والتي تأتي بها الحكومات الحليفة لإيران لتحل الأزمات، تُستدعى من داخل النظام، بل ومن داخل حزب السلطة في بعض الحالات، كما حدث مع حكومة العبادي، عضو حزب الدعوة.

مع انهيار أسعار النفط العالمية وتفشي جائحة كورونا ومن خلف ذلك انتفاضة تشرين، جاءت الكتل السياسية بمصطفى الكاظمي ذو العلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة الأميركية لتعديل الأوضاع (التظاهرات والتواجد الأجنبي وغيره) ومن بينها، وهو موضوع حديثنا اليوم، الأزمة الاقتصادية.

لا خطوة ملموسة تؤشر على إصلاح يلوح في الأفق ينقذ الدولة قبل أن تعلن إفلاسها ويجري تفكيكها من الأسماك الكبيرة في العالم والإقليم

تدرك الكتل السياسية بلا شك، أن انهيارًا اقتصاديًا كما حدث لا يمكنها حلّهُ، فمن غير المنطقي أن تحارب هي الفساد الذي أوصلها وأبقاها في السلطة، إضافة إلى افتقارها للرؤية والفكر الاقتصادي الاستراتيجي، فما الحل إذن؟؟ .. الجواب: دعونا نقترض.

اقرأ/ي أيضًا: رئاسة البرلمان تطالب اللجنة المالية بتخصيص 600 مليار دنيار لمشروع ميناء الفاو

لكن هذا الحل أيضًا غير متاح للكتل الرئيسة الشيعية تحديدًا وبعض السُنية، فالمجتمع الدولي لن يساعد العراق وهي على رأس السلطة، لناحية الشروط الاقتصادية والفنية التي تفرضها الدول والبنوك، والسياسية منها المتعلقة بوجودها وميليشياتها وعلاقتها بإيران، فاختارت (بتذاكي) الشخصية المقرّبة من الغرب لتعبر بالبلاد الأزمة (سواء بالاقتراض أو مشاريع الاستثمار أو منع العقوبات في أضعف الإيمان) وتعيدها إلى نقطة 2018 على الأقل لتعاود الكتل الرئيسة عملها الطبيعي من جديد. وبكلمات أخرى فأن النظام السياسي العراقي وأركانه، يعاني حتى في الاستدانة التي هي أساس فشل الدولة، بمعنى أنه فشل بأن يكون فاشلًا كما يحدث الآن مع دول عربية تعيش على الاقتراض.

الخُلاصة، إن الأحزاب والشخصيات السياسية الأساسية في النظام العراقي وباختلاف توجهاتها الشرقية والغربية لا تختلف في المسار التدميري منذ 2003، فإفلاس الدولة وانهيارها شيء مشترك يسعى إليه الجميع، أو قل هو الطريق الذي يسير فيه، دون الخوض في النوايا.

لقد وصلت الديون العراقية الداخلية إلى 60 تريليون دينار وفق تصريحات وزير المالية، ذلك قبل الاقتراض الأخير المقلّص للأسباب المذكورة، ولا خطوة ملموسة تؤشر على إصلاح يلوح في الأفق ينقذ الدولة قبل أن تعلن إفلاسها ويجري تفكيكها من الأسماك الكبيرة في العالم والإقليم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

معضلة النظام العراقي وأزماته.. انتهت حلول الأرض؟

مركبة الحكومة والأحزاب وطريق حسان دياب