19-يناير-2025
.

الكيان الإسرائيلي في نكبة ليست أقل من نكبة غزة (فيسبوك)

للأسف، هزأ بعض الأصدقاء حين كتبنا على صفحاتنا في "فيسبوك" وغيرها، وقلنا إن "غزة انتصرت"، بل راح بعضهم إلى التحامل والتشفي بقادة المقاومة الفلسطينية، باعتبارهم قد تسببوا بالأزمة الإنسانية التي رأيناها خلال أكثر من عام في غزة.

إن السياق الفلسطيني أبرز حالة للتحرر الوطني الذي يُلخص نفسه بالمواجهة

وسخر أصدقاء من اتفاق وقف إطلاق النار، معتبرين إياه نكتة قبالة الدمار الذي لحق بالقطاع، وأنا أقول إنها نكتة ونكبة ونكسة وكارثة، لكن وبالمقابل فإن الكيان الإسرائيلي في نكبة ليست أقل من نكبة غزة، بل أنها أكبر من نكبة غزة.

نكبة الكيان أكثر جحيمية، لأنه وإلى جانب الخسارات، فإنه لم يحقق أهدافه الاستراتيجية التي تحدث عنها طيلة الشهور الماضية، وتعمد إطالة أمد القتال في القطاع المحاصر والإيغال بقتل المدنيين والنساء والأطفال وتجويعهم وتشريدهم وهدم البنى التحتية، لتحقيقها، لكنه لم يجنِ غير الخيبة.

قبل 70 عامًا تقريبًا، شهدت فيتنام معارك مدمرة، واحدة منها وأبرزها، معركة "ديان بيان فو"، التي دارت رحاها أشهراً، وخلفت دمارًا هائلًا، أنهى من خلالها الفيتناميون الحكم الاستعماري الفرنسي لبلدهم، ومهدت لإنهاء استعمار فرنسا لعدد من الدول الإفريقية والآسيوية، وحققت أهدافها الوطنية رغم الخسائر البشرية وفي البنى التحتية.

وقبل أقل من 10 أعوام، وحين بدأت القوات العراقية، مصحوبة بطيران التحالف الدولي، بقتال تنظيم "داعش" وتحرير مدينة الموصل، حصلت كارثة إنسانية كبيرة، وظهرت المدينة بساحليها الأيمن والأيسر منكوبة ومدمرة، وخسارة عشرات الآلاف من العراقيين، نازحين ومقاتلين، فقد أوغل الإرهابيون في "داعش" بتدمير كل شيء يمكن تدميره، كما أن طيران التحالف الدولي، لم يدّخر جهدًا في أخذ حصته بالتدمير، باتباع سياسة الأرض المحروقة، لكن بعد انتهاء المعركة، فرحنا ورقصنا جميعنا بانتصار الموصل والعراقيين على الإرهاب.

أتحدث هنا، عن حركات التحرر الوطنية، الذي يحتاج إلى ثمنٍ باهظ وشاق. وأن المعركة في غزة تمثل أرفع درجات السعي للحرية، فما نيل المطالب بالتمني، ومع كيان مجرم مثل "إسرائيل"، فإن نيل المطالب لا يتحقق بأي شكلٍ من أشكال الأفعال السلمية. إن السياق الفلسطيني أبرز حالة للتحرر الوطني، الذي يُلخص نفسه بالمواجهة. مواجهة قوة احتلال وحشية تؤمن بخرافات تحثهم على قتل ما لا يشبههم، وينظرون إلى الفلسطينيين وكل الناس في العالم على أنهم أقل أهل الأرض منزلة، ووحدهم الأخيار.

كان الكيان يريد تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية، وهي "تحرير الأسرى بالقوة العسكرية التدميرية، وتفكيك البنية التحتية لحركة حماس، وتدمير كل شبكات الأنفاق"، ولو سألنا: هل حقق الكيان أهدافه هذه؟، فالجواب "لا"، فلم يتحرر الأسرى عسكريًا بل سيتم ذلك عبر صفقة تبادل، والبنية التحتية لحماس قاتلت إلى النهاية، ولم تُدمّر بالكامل، بل ما تزال تحتفظ ببعض قدراتها، وبضمنها شبكات الأنفاق.

وبالنسبة لتدمير غزة، فهو وواضح بالأرقام، وقد قرأنا وسمعنا عنه، وهو الثمن الباهظ والشاق، وهو خسارة كبيرة، ومن يشمت فيها فقد ساهم في صناعتها. لكن لننظر إلى الخسارات الإسرائيلية، وأقل ما يمكن الحديث عنه، ما فعلت حكومة الكيان بنفسها من إحراج أمام العالم.

وكم ساهمت تصرفات نتنياهو الغبية، بزيادة زخم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وكم حققت غزة جماهير غفيرة من ملايين البشر حول العالم يدعمون قضيتها، وكم أذلت الإسرائيليين وهم ينتظرون موافقة حماس على اتفاق وقف إطلاق النار، ولم ترفع حماس الراية البيضاء.

كم أفضت هذه الخسارة في انتكاسات سياسية لليمين الإسرائيلي المتطرف، وكم دفع الكيان أثمانًا باهظة بالنسبة لأمنه القومي. والمستقبل لا يسر بالنسبة لوضع الكيان، على الصعيدين السياسي والاجتماعي.

إن الحرب على غزة، لم تكن قتالاً عسكريًا على الأرض فقط، بل أنها معركة للفوز بقلوب الشعوب، والتأكيد على الإنسانية، وقد فازت غزة وخسرت دولة الاحتلال، وتعرضت الأخيرة إلى أقسى الخسائر حين خرج ملايين الناس حول العالم ينددون بالجرائم ضد المدنيين في القطاع.

فازت غزة، وفازت حماس، حين وقف ملايين الأميركيين والأوروبيين وطلبة الجامعات في كل العالم، ليؤكدوا حق المقاومة في قول كلمتها بعد سنين القمع والتجويع والحصار والسيطرة على البر والبحر والتمييز العنصري وكسر إرادة الإنسان الفلسطيني.

إن التضحيات أهم الاستثمارات الاستراتيجية، وقد استثمر الفلسطينيون في قضيتهم أعظم استثمار، حتى أحرجوا العالم كله، وقد أودت التضحيات بأن تصنع مشكلة عالمية، ما بين الحكومات الداعمة للكيان بعشرات مليارات الدولارات، إلى حالة تصادم مع شعوبها، والتي كان لها رأي آخر.

من يظن أن التغيير الذي تركته غزة، وقع على منطقتنا فقط، واهم، لأن الصدمة التي تركته غزة، ستغير أنظمة خارج حدود العرب الجيوسياسية، في المستقبل، ولا يظن أحد أن المقاومة في فلسطين انتهت، قد تكون هذه بدايتها، ليس من داخل الأراضي المحتلة أو غزة، بل من خارجها.

ما زادت هذه الحرب إلا من صمود أهالي غزة وتوحد الفلسطينيين، وما أودت هذه الحرب إلا لتفكك غير اعتيادي وصدمات اجتماعية وانهيارات نفسية للإسرائيليين. وقد أثبتت غزة، أن الكيان ليس إلا حكاية للأطفال قبل النوم، وإلا فأين القوة التي لا تُقهر، وأين المنظومة الأمنية والاستخباراتية، وأين الدفاعات الجوية والقبة الحديدية؟

إن التضحيات أهم الاستثمارات الاستراتيجية وقد استثمر الفلسطينيون في قضيتهم أعظم استثمار

ننظر إلى الرأي العام العالمي، الذي قد نعتقد نحن أهل العراق والبلدان العربية أنه غير مهم، لكنه في الحقيقة يبني حكومات ويهدم حكومات ويصنع اقتصادات ويدمر اقتصادات، فإنه يقف حاليًا ضد الكيان، وصار لديه أرشيفات لا تموت عن قصف المستشفيات وحرق الأطفال في الخيام واستهداف الأطباء وقتل الصحفيين، وخرق كل ما ممنوع خرقه. وإن كل فعله الكيان وما لم يتمكن من فعله، يُجيب بالقول: نعم.. انتصرت غزة.