19-ديسمبر-2019

"سأزور قبرك عندما أذهب إلى العراق لكنني أعلم أنك لست هناك فقط" (Alex MacDonald)

بات صفاء السراي أو كما كان يحب أن يكنى "ابن ثنوة"، أحد أهم رموز الاحتجاجات العراقية التي انطلقت في تشرين الأول/أكتوبر، وتستمر مع إصرار على تحقيق أهدافها المتمثلة بنظام سياسي رشيد يستطيع انتشال البلاد من واقعها المزري.

احتفت صحيفة نيويورك تايمز بصفاء السراي الشاب الذي تحول إلى رمز للاحتجاجات العراقية بعد مقتله على يد السلطة في تشرين الأول الماضي

قصة كفاح صفاء على مدى سنوات لتغيير واقع البلاد عبر ساحات الاحتجاج، ونضاله لتوفير لقمة عيشه وعلاج والدته "ثنوة" التي أنهكها السرطان قبل موتها، والتي ختمها مضحيًا بروحه ليثبت أن "لا أحد يحب العراق بقدره"، كما كان يؤكد دائمًا، خلدته بين شبان "انتفاضة تشرين" فباتوا جميعًا "أولاد ثنوة" ونقلوا قصته إلى العالم عبر الفن والشعر والإصرار على سلمية الحراك الاحتجاجي.

أجبر الشبان المحتجون العالم على سماع صوتهم بعد تضحيات جسمية حيث قتل وأصيب أكثر من 22 ألف شخص، أحدهم صفاء السراي، والذي احتفت به صحيفة "نيويورك تايمز" عبر نشر مقالة للكاتب العراقي سنان أنطوان بعنوان "سأزور قبرك عندما أعود"، تروي جوانب من قصة السراي، والتي ترجمها "الترا عراق" فيما يلي دون تصرف:


ما زال العراقيون منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر يحتجون على النظام السياسي الذي استفحل فيه الخلل والفساد، والذي نصبته الولايات المتحدة بعد احتلال عام 2003، وعلى عكس موجات الاحتجاجات السابقة التي بدأت في عام 2011، كانت هذه التظاهرات عفوية ولم ينظمها أي حزب.

كان الشعار الأكثر شيوعًا وحماسة خلال التظاهرات هو "نريد وطنًا"، وهذا ما يعكس الغضب والاغتراب الذي يشعر بهِ العراقيون تجاه الطبقة السياسية المرهونة للتأثير الخارجي (إيران والولايات المتحدة) والغافلة عن مطالب شعبها.

اقرأ/ي أيضًا: ساحة التحرير تودع "ابن ثنوة".. ماذا تعرف عن المتظاهر اليتيم؟

أدى القمع الوحشي وقتل المتظاهرين إلى تأجيج غضب العراقيين، مما زاد من حدة التظاهرات والإضرابات في جميع أنحاء العراق. كما أدى إلى ردكلة لغة ومطالب المتظاهرين الذين طالبوا بإصلاح النظام بأكمله بدلاً من تجميله.

إن استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في 29 تشرين الثاني/نوفمبر لم تفعل شيئًا لتهدئة المتظاهرين، مع استمرار قمع السلطات.

قُتل أكثر من 500 متظاهر خلال هذه التظاهرات. حاولت أن اكتشف أسماءهم وألقي نظرة على وجوههم، لكنني لا أستطيع المواصلة، الموت يقبض على أرواحهم في لحظة ويسلم أجسادهم لظلام القبر، لكنه يضيء أسماءهم ووجوههم وقصص حياتهم، مما يجعلهم مألوفين أكثر بالنسبة لنا، نحن الذين نرتبط بالعراق، سواء كنا نعيش هناك أو في بلد بعيد.

كنت أعرف صفاء السراي، الشاعر والفنان البالغ من العمر 26 عامًا، كتب لي منذ تسع سنوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن إحدى رواياتي، وواصلنا التراسل.

أحببت ذكاءه وروح الدعابة ومنشوراته الثاقبة عن الحياة والسياسة في العراق. كان صفاء شابًا عاطفيًا وقارئًا للشعر، نشأ وترعرع في عائلة من الطبقة العاملة في بغداد، توفي والده عندما كان صغيرًا. لقد كان يعمل لثلاثة أيام في الأسبوع كعامل بناء وحمال أثناء دراسته في الجامعة التكنولوجية في بغداد، لتغطية نفقاته وإعانة أسرته.

نشرت الصحيفة الأمريكية مقالًا للكاتب العراقي سنان أنطوان روى من خلاله جوانب من قصة صفاء السراي "ابن ثنوة"

في عام 2011، اجتاحت البلاد موجة من التظاهرات ضد الفساد والطائفية في النظام العراقي، انضم صفاء، الذي كان في الثامنة عشر من عمره في ذلك الوقت إلى المتظاهرين الباحثين عن التغيير، لقد كان في طليعة كل موجة من الاحتجاجات في السنوات التي تلت ذلك.

وعلى الرغم من تعرضه للاعتقال والتضييق عدة مرات إلا أنه عاد إلى الشارع للتظاهر في كل مرة. كنت قلقًا عليه في كل مرة تندلع فيها التظاهرات للتأكد من أنه بخير.

"سنبقى هنا في التحرير"، كان يكتب في إشارة إلى ساحة التحرير في وسط بغداد، لقد كتب لي ذات مرة متسائلاً "متى يمكن أن أقابل الموت الذي ينتظرني في وطني". لقد أحب العراق وكان يذهب إلى النوم ليلًا ويفكر فيما يمكن أن يفعله لتغييره.

قابلت صفاء لأول مرة في شباط/فبراير في معرض بغداد للكتاب. جاء إلى توقيع كتابي وكان ساحرًا وصاحب كاريزما. التقينا مرة أخرى لتناول الإفطار في آخر يوم لي في بغداد. حصل صفاء على شهادة البكالوريوس في علوم الكمبيوتر، ولكن مثل مئات الآلاف من الشباب العراقيين، لم يتمكن من العثور على عمل في هذا المجال.

أخبرني على الإفطار أنه بدأ العمل مؤخرًا كعرضحالجي، أو في الاستنساخ. كان يضع كرسيه وطاولته كل صباح خارج قاعة المحكمة في بغداد.

 سألته هل كانت هناك أي قصص مثيرة صادفتك؟ قال وهو يبتسم: "إنها مجرد محكمة مرور، كانت الرسائل التي اضطر إلى كتابتها شديدة التعقيد، معظمها حول الحوادث أو نقل الملكية".

خلال التظاهرات في صيف عام 2018، تلقى رسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أحد أفراد الميليشيات يحذره للابتعاد عن التظاهرات، لكنه كان يتجاهلهم في البداية وبعد بضعة أيام، احتجزه رجال أمن بملابس مدنية وقاموا بتعذيبه لانتزاع معلومات عن متظاهرين آخرين.

 قال إن ذكرى والدته ثنوه وقوتها ساعدته على تحمل الألم والبقاء صامدًا في لحظات الضعف. لقد كان قريبًا جدًا من ثنوة، التي توفيت بسبب السرطان في عام 2017، وكتب عن معاناتها وقدرتها على التحمل وقد أطلق على نفسه اسم "ابن ثنوة".

اقرأ/ي أيضًا: واجه "مثقفين" بحقيقتهم: صفاء السرّاي موثقًا ومتظاهرًا وشهيدًا!

كان تحويل التركيز بعيدًا عن الأب إلى الأم هو فعل مقاومة شعرية ضد الأعراف الاجتماعية. كان صفاء مستقلًا بشدة وينتقد النخبة المثقفة والشخصيات الإعلامية التي خانت المتظاهرين، واستغلت التظاهرات السابقة وعقدت الصفقات مع الأحزاب السياسية.

لقد كان شاعرًا طموحًا، وفنانًا تبرع بالمال إلى دار للأيتام. كان قلبه حديقة للجميع لقد كنت أفكر في بعض الأشعار التي كتبها: "حزن الناس هو حزني، أعيادهم ملكي، دعوا حياتي تنفث في صحاريهم. هذه الزهور في روحي هي حدائق الناس".

عندما بدأت التظاهرات في تشرين الأول/أكتوبر كان صفاء في مقدمة المتظاهرين. كان يحث المتظاهرين على أن يظلوا مسالمين لكن لا أن يستسلموا أبدًا. في 28 تشرين الأول/أكتوبر بعثت برسالة إلى صفاء: "سمعت أنك مصاب اسمح لي أن أعرف أنك بخير".

لكن لم يكن هناك أي جواب. لقد اخترقت إحدى عبوات الغاز المسيل للدموع، التي أطلقتها قوات مكافحة الشغب عمدًا وبشكل مباشر على المتظاهرين، رأسه بينما كان يتظاهر بسلام في ساحة التحرير،  لقد توفي بعد بضع ساعات. بكيت عندما رأيت لقطات لتشييعه حول الساحة وزملاؤه المتظاهرون يحيطون به وهم يودعون البطل.

كان صفاء مستقلًا بشدة وينتقد النخبة والشخصيات التي خانت المتظاهرين واستغلت التظاهرات السابقة وعقدت الصفقات مع الأحزاب 

منذ بضع سنوات، كتبت قصيدة عن أولئك الذين يموتون من أجل الحرية والعدالة. لم أكن أعتقد أنني كنت أكتبها قبل الأوان لصديقي. قبل بضعة أسابيع رأيت صورة حمامة بيضاء واقفة على تابوت أحد الذين قتلوا على يد السلطات بالقرب من التحرير. تساءلت هل هذا أنت يا صفاء؟

سأزور قبرك عندما أذهب إلى العراق، لكنني أعلم أنك لست هناك فقط، وجهك على العديد من الجدران واللافتات والقمصان وروحك موجودة في كل مكان لا يزال إخوانك وأخواتك أبناء ثنوة يقاتلون من أجل العراق الجديد الذي كنت تحلم به وتحبه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صفاء السراي.. هذه قِبْلَتنا

قنابل عسكرية قاتلة ضد رؤوس المتظاهرين.. "أمنستي" تفضح السلطات العراقية