24-ديسمبر-2019

متظاهرون طالبوا بإصلاحات جذرية تتعلّق بالدستور (Getty)

يقوم النظام السياسي في الدولة التي تتبع الخيار الديمقراطي كمنهج وسلوك على قاعدتين أساسيتين، الأولى: العقد السياسي، الذي تقدم بموجبه الأطراف السياسية النابعة من البنية الاجتماعية بجميع أركانها التقليدية بالعمل على إدارة الهياكل الرسمية للنظام بالشكل الذي يحقق احتياجات الأفراد بغض النظر عن تكويناتهم الاجتماعية سواءً أكانت مذهبيةً أو قوميةً أو عرقيةً.

استطاعت الأطراف السياسية عبر الدورات الانتخابية تنظيم إيقاع التكوين الاجتماعي من على أساس مكوناتي؛ وذلك حينما كرسته دستوريًا وتم توزيع المؤسسات عرفيًا

والثانية: العقد الاجتماعي، الذي تلتزم به البنية الاجتماعية  بواجباتها اتجاه الدولة، أي الالتزام بالقواعد الدستورية التي تحدد طبيعة العلاقة بين الدولة المجتمع، أي التزام متبادل مع أركان هذا العقد الذي لا بدّ أن يكون بين طرفيين متساويين، مع أخذ النظر بعين الاعتبار علوية العقد الاجتماعي على العقد السياسي، باعتبار الأخير من نتاجات المجتمع، والأول أساس السلطات ومصدرها.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة العراق وتطلعات الجيل الجديد

وتطبيقًا على الواقع العراقي، فقد أنتج العقد السياسي دستور عام 2005، وعرض على العقد الاجتماعي للاستفتاء الشعبي العام، وقد أجيز هذا الدستور بعد  حصول الأغلبية المطلوبة لكي يكون نافذًا على الرغم من اعتراض بعض التكوينات الاجتماعية المذهبية على هذا الدستور، الذي أشار في المادة 5 إلى أن الشعب مصدر السلطات، وهذا يعني علوية العقد الاجتماعي على العقد السياسي الذي ذكرناه آنفًا.

وصور العقد السياسي أن الذي حدث بعد عام 2005، لم يكن عقدًا بين الأفراد والأطراف السياسية، بل كان بين التكوينات الاجتماعية مع بعضها، لا مع الأطراف السياسية بحجة أن هناك خلافات تاريخية حادة بين هذه التكوينات، والعقد السياسي ضروري لها للتخلص من هذه الخلافات أو على الأقل احتوائها، وبالفعل تم تسويق ذلك التصور الذي في حقيقته لا أساس له على أرض الواقع، فلا يمكن اختزال سلبيات نظام سياسي حكم العراق على تكوين اجتماعي باعتبار أن رأس النظام السياسي ينتمي لذلك التكوين.

وقد ظهر نتاج تصورات العقد السياسي عبر الدستور بتشكيل الحكومات المتعاقبة التي استطاعت الأطراف السياسية الفاعلة في هذا العقد، وعبر الدورات الانتخابية لمجلس النواب تنظيم إيقاع التكوين الاجتماعي من على أساس مكوناتي سواءً من ناحية الدين أو القومية أو العرق؛ وذلك حينما كرست التكوين الاجتماعي دستوريًا وتوزيع المؤسسات عرفيًا، فمن ناحية التكريس الدستوري فقد أشارت ديباجة الدستور إلى ذلك بالفقرة ثانيًا من المادة الثانية، والمواد (3/4/9/12) وغيرها من المواد، أما توزيع المؤسسات عرفيًا "رئاسة الوزراء للتكوين الاجتماعي المذهبي/الشيعي، ورئاسة البرلمان للتكوين الاجتماعي المذهبي السني/ ورئاسة الجمهورية للتكوين الاجتماعي القومي/الكردي".

حكومات  كان من المفترض أن تحقق رغبات وتطلع الأفراد لا المكونات وفق العقد المبرم، لكنها حقّقت رغبات الأطراف السياسية، وجعلت القوانين تشرع وتنفذ لمصالح الأطراف السياسية حتى تصدر العراق قوائم الدول الأكثر فسادًا في العالم وعاصمته اسوأ مكان للعيش، ناهيك عن البطالة وضعف البنية التحتية وغيرها من الأزمات، وفي الحقيقة، هذه الأزمات كانت متوقعة لسبب بسيط، وهو أن الدستور الذي تشكلت به تلك الحكومات لم يكن نتاج العقد الاجتماعي، وإن ساهم بها من خلال المشاركة في الانتخابات،  لكنها كانت من نتاجات العقد السياسي الذي يشرع القوانين المهمة ومنها قانون الانتخاب الذي من خلاله استطاع إعادة إنتاج نفسه في المشهد السياسي.

الدستور الذي تشكلت به الحكومات في العراق لم يكن نتاج العقد الاجتماعي، وإن ساهم بها من خلال المشاركة في الانتخابات،  لكنها كانت من نتاجات العقد السياسي

إزاء هذه الأزمات المتراكمة وانسداد أفق الحل السياسي وعدم استعداد الأطراف السياسية للتنازل عن المنجزات التي حصلت عليها، خرجت أركان العقد الاجتماعي في بداية تشرين الأول/أكتوبر انطلاقًا من مبدأ علوية العقد الاجتماعي على العقد السياسي إلى الشوارع والاعتصام في الساحات من أجل إبرام العقد السياسي الجديد، ومن خلال مطالب تغيير النظام السياسي وتغيير الطبقة السياسية التي انتجت ذلك النظام، أو تعديل العقد السياسي الحالي عبر تشكيل مفوضية جديدة، وإقرار قانون انتخابي عادل يحقق رغبات العقد الاجتماعي بجيله الجديد، وتعديل بعض مواد الدستور، فيما ردت الأطراف السياسية على تلك المطالب بالعنف المفرط للقوة، وهذا نتاج طبيعي بالنسبة للأطراف السياسية، فهي تعتقد أن ما حدث في عام 2005 لم  يكن عقدًا بين الأطراف السياسية والأطراف الاجتماعية، بل بين الأطراف الاجتماعية لحقن دمائها، وبالتالي فالعقد السياسي غير معني، ومع ذلك الاعتقاد، فالجماهير لم تعد تعير أي اهتمام لما يقوله العقد السياسي وغير مستعدة بالأساس لسماعهِ، فكل ما تريده، إما إبرام لعقد سياسي جديد، أو مراجعة بنود العقد المبرم بالشكل الذي يحقق مطالب الشرعية المجتمعية التي قوامها العام شباب منتفض يريد أن يكون الدستور نتاج العقد الاجتماعي، وليس نتاج العقد السياسي كما كان قبل انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قبل "الكارثة".. ما هي خيارات سلطة الخضراء؟

عن الهوية والاختلاف ومصيرنا المشترك