22-سبتمبر-2020

كثيرًا ما يعمل الإخوة في التقاطعات معًا (Getty)

ـ العراق صناعة الموت

ـ ماذا؟! إنه برنامج تافه

ـ لا، نحن مَن يصنع الموت.

ــ كلّا يا صديقي، إنهم يوهموكَ، هم مَن يصنعونه داخل وطننا. 

ـ حسنًا.. حسنًا.. نحنُ لا نصنعُ الموت؛ فنحن عبارة عن كتلة من اللحم والدم والعظام تبدأ كنطفةٍ وتنتهي إلى لتر نفط أسود! نحن لا نصنعُ الموت! إننا بريئون من هذا الاتهام، بريئون جدًا، نحن لا نصنع الموت، نحن نصنع الأداة فقط، نحن نصنع القتلة، هل تصدّقون ذلك؟ هذا ما يقوله الواقع، إننا نصنع القتلة واللصوص؛ نصنع تاجر المخدّرات وتاجر الأعضاء البشرية، ورجال المافيات وحيتان الفساد، ولأفاجئكم أكثر أننا نصنع الانتحاريين، نصنع القتلة. يبدو الكلام غريبًا وسوداويًا جدًا. سأحاول التوضيح أكثر من خلال شريحة واحدة في الشارع العراقي. شريحة استطعتُ الاقتراب منها والتعامل معها لفترة جيّدة. إنها شريحة أولاد الشوارع. فمن عادتي دائمًا أن أخرجَ ليلًا بمفردي. أقضي ساعاتٍ في الشوارع، أشربُ الشاي وأستمع للموسيقى وأدخّن وأسجّل كل مشهد أو حادث يستفزني في الموبايل وبالتأكيد أتعرّف على شخصيات جديدة. من أهم الشخصيات التي تعرّفتُ عليها شاب يُدعى (علي سكران) طالب إعدادية يقضي سنته الثالثة المسائية في السادس الإعدادي. علي في بداية مشواره الكتابي. يقرأ الروايات تحديدًا برفقة مجموعة من الشباب والبنات على الانستغرام والتليجرام. علي يعمل بائع شاي في محل صغير بسيط يحوي المشروبات الغازية وعبوات الماء البارد وشيء من الكرزات والحلوى ويقدّم المشروبات الساخنة من شاي إلى حامض إلى قهوة بنوعيها الحلوة والمرّة إلى دارسين إلى الحليب و الكباجينو. شايه لذيذ جدًا؛ لذلك بقيتُ أتردّد عليه دائمًا. تحدّثنا أكثر، أعطيته بعض النصائح بخصوص ما يقرأ؟ لمن قرأ؟ مع من يتواصل ليطوّر نفسه؟ كان طيّعًا جدًا؛ انقطع عن الأعمال التجارية والساذجة، التجمّعات السخيفة المؤدلجة. كما كان يعرض عليّ بعض محاولاتهِ في الكتابة. الموضوع المهم الذي كنّا نتحدّث عنه دائمًا هو علاقته بمجموعة من أطفال الشوارع الذين يعملون أمام محلّه في التقاطع المروري للشارع. كانوا يتراوحون بين الاستجداء وبيع الماء وورق الكلينكس ومسح وتنظيف الزجاجات الأمامية للسيارات. مجرّد أن يتوقف السير يتراكضون جميعًا بين السيارات محاولين إقناع الزبون. بعضهم ينجح، بعضهم يخفق، يخفق دائمًا أو ينجح دائمًا؛ فهذا يعتمد على الكاريزما والأسلوب التي يؤدي بدورهِ إلى إقناع المقابل وبالتالي الحصول على رقم معيّن (500 ، 250، 1000 دينار عراقي). كانوا يحبونه جدًا. لدرجة أنهم يطيعوه ويسمعون كلامه. علي سكران واعٍ جدًا، ويدرك كيف يحميهم ويحمي نفسه منهم في نفس الوقت. يحبونه لأنه كثيرًا ما يساعدهم ويحميهم. يساعدهم مثلًا في الاتصال بذويهم من موبايلهِ، أو يقدّم لهم مشروبًا ساخنًا مجانًا، لكن ممن يحميهم؟ باختصار شديد يحميهم من دوريات الشرطة، فالبعض يؤذيهم جدًا كما يحاولون استغلالهم، خصوصًا الإناث القاصرات. أوّل نقطة مهمة أخبرني بها علي سكران إنّ الأسماء والأعمار جميعًا في عالمهم وهمية، حتّى بينهم يتداولونها وهمية تمامًا. عندما كنتُ أتواجد هناك دائمًا ما يحذرني من التحدّث والتعامل معهم؛ لأنهم شرسون ومتمردون جدًا، وبالتأكيد ستحصل مشكلة؛ كوني لا أفهم لغتهم. إنها لغة الجوع، لغة الخطر، لغة المغامرة، لغة الذلة، لغة التوحّش؛ حيث الحياة مستنقع جحيم كبير! مرّةً كنتُ واقفًا، فبادرني أحدهم (أشقر وسريع الحركة ويبدو لي ابن 12 سنوات):

ـ متعرفني؟

ـ لا!

ـ آني ابن جاسم. 

ـ يا جاسم؟!

هنا يقاطعنا متدخلًا (علي سكران) ليفهمني أنّه ابن (جاسم ورديّة) أهمّ من اجتاحوا سجن الشاوي في الحلة وهرّبوا المحكومين هناك في سنوات الحرب الطائفية. كانتْ هذه المرّة الأولى والأخيرة لي في التعامل معهم. هو بريء جدًا، لكن كل هذه البراءة ستختفي مجرّد الاقتراب منه. سيداهمكَ بانفعال وشراسة تجبرك على الحذر والتوجّس عند التعامل معه. وبالنهاية ستجبرك على خسارة المعركة والابتعاد. ماذا تغيّر في طفل تقول له بلطفٍ (شنو اسمك؟) ليجيبكَ (انته شعليك!) طبعًا صديقي (علي سكران) حدّثني عن الكثير من المواقف والأساليب والضغوطات التي ستصنع من هؤلاء الأطفال الصغار قتلة في المستقبل:

الطفلة زهراء:

ذات مرّة كنتُ أقفُ معه، وأحاول التلذذ بكوب الشاي برفقة السيجارة، بينما كان يتحرّك على زبائنهِ في المحلّات. عندما انتهى منهم وصل أستاذ صاحب مكتب تدريس خصوصي في العمارة التجارية واتفقا على شيء معين بعد أن شرب شايه، ناوله (10000 دينار عراقي). يغادر الأستاذ؛ لينتقل علي سكران معطيًا المبلغ لطفلة كانت تجلس على كرسي في باب المحل. كانت ترتدي العباءة السوداء وتغطّ في خجلها وصمتها داخل الكرسي محنية رأسها. كانت صغيرة لا تتجاوز الثانية عشرة من عمرها.

كان (علي سكران ) قد نسّق لها عملًا آخر غير الجدية. العمل هو تنظيف أي مكتب يحتاج أحدهم لتنظيفهِ. ساعة واحدة أو أقل الساعة تكفي لمبلغ جيّد. بعد مدّة سألته عنها. قال إنها جاءت آخر مرّة قبل أسبوع ولم تنزل الشارع أبدًا بعد ذلك. كان ذلك في تلك الظهيرة عندما دخلتْ عليه المحل، وكان هناك زبون لديه. رجل متقدّم في السن يرتدي الدشداشة، تعترض أصابع كفّه اليمنى مسبحة كهرب، يستمر بالحديث بموضوع شرعي. زهراء كعادتها تدخل طالبة من (علي سكران) مبلغًا بسيطًا بعدما وعدته بترك العمل في الشارع، ووعدها أنه سيتكفل بعمل غيره لها. يعطيها المبلغ فيتدخل الرجل معترضًا. 

ـ ليش انطيته؟

ـ خطيّه مسكينة

ـ أنت تعرفهه؟

ـ أي

ــ هاي كَحبة لتنطيهه عين بعد

عندها يتوقّف (علي سكران) عن صبّ الشاي، ويطالبه بمغادرة المحل فورًا.

الأخ الكبير والأخ الصغير:

كثيرًا ما يعمل الإخوة  في التقاطعات معًا، كل مطلوب منه أن يأتي بمبلغ معيّن، رقم معيّن. سواء كانوا مرتبطين بعائلة حالتها الماديّة صفر أو زوجة أب قذرة أو زوج أمٍ أقذر وغالبًا مافيات عملاقة تقوم باستغلالهم. طبعًا المبلغ المطلوب من الأخ الكبير أكبر من المبلغ المطلوب من الأخ الصغير. وكثيرًا ما يزداد الضغط على الأخ الصغير هذا. عندما يمارس الكبير سلطته عليه؛ حيث يذهب للأماكن الترفيهية من قاعات بلياردو وألعاب ألكترونيّة إلى كوفي شوبات إلى مطاعم وشوارع تجاريّة ومولات. حيث يتركه طيلة النهار بالكامل ويطالبه في آخر الليل بالمبلغ المقرّر جمعه عليه، والمبلغ المقرّر أن يجمعه لهذا اليوم. أي أنه يدفع ويعمل نيابة عنه كثيرًا ما يستفزه بالكثير من المساومات إن كشف الأمر للرأس الأكبر المسؤول والمتحكّم الوحيد. المسؤول بما يملك والمتحكّم بأذرعه الطويلة في السلطة والدولة. السؤال المهم: برأيكم هذا الضغط ماذا سيولّد؟!  

أبشع الاستغلالات

قلتُ إنّ صديقي (علي سكران) يحميهم دائمًا من إيذاء رجال دوريات الشرطة واستغلالهم. عندما يُداهَمون ويُضربون سيلتجؤون لمحلّهِ بالتأكيد وقد يهربون بعدما تصلهم الأخباريّة. مرّات يكون هذا الاستغلال ماديًا جدًا. الاستفزاز والتهديد مقابل الحصول على كل ما في جيوبهم من مال. وقد يصاحبُ ذلك لكمة أو صفعة على الوجه أو كسر يد أو ساق أو شيء آخر. أمّا البنات، وخصوصًا الجميلات، فكثيرًا ما يتعرّضنَ لاستغلال آخر. استغلال يوضحّه المشهد الذي رآه (علي سكران) ذات ظهيرة حمراء:

أربعة رجال، أربعة ضعاف نفوس، أربعة معدومي ضمير، أربعة حيوانات يستفردون بطفلةٍ لم تتجاوز الثالثة عشرة في سيارة شرطة. 

الهروب:

(كِثْر الدك أيفكّ اللحام)

مثل عراقي مشهور؛ فعندما يكثر (الدك) سينفك (اللحام) . باختصار شديد سنحصل على النتيجة النهائية. النتيجة التي حدّثنا عنها الأمريكي واطسن. طفل ينتحر، طفل يصبح قاتلًا، طفل يصبح لصًّا، طفلة تصبح عاهرة أو سمسارة عاهرات، طفل تنقطعُ أخباره بالكامل. هذا ما لم أصدّقهُ لحد الآن. عندما حدّثني عن أحدهم (علي سكران). أحدهم الذي هرب ولم يعد أبدًَا منذ 3 سنوات. انقطعتْ أخباره تمامًا. هل مات؟ هل ألقيَ القبض عليه في محاولةٍ فاشلة لسرقة سيّارة؟ درّاجة ناريّة؟ عبوة بيبسي من برّاد سوبر ماركت لعين؟ هل فرّ خارج العراق؟ هل تمّ استغلاله مجدّدًا في مكانٍ آخر؟ هل انتحر في ظروفٍ غامضة؟ هل انضمّ لتنظيم إرهابي؟ هل استطاع تأسيس عصابة؟ هل سينزل في انتخابات العراق القادمة؟ هل.. هل.. هل تصدّقون أنه لم يُعرف عنه شيء لحدّ الآن؟ هل تصدّقون إننا صنعنا من هؤلاء الأطفال قتلة؟!   

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

نسهرُ لأنكم نائمون

فيروس الديانة الشعبية القاتل