01-يونيو-2020

بالرغم من مطالبها المشروع واجهت سلطة المحاصصة انتفاضة تشرين بالقناص (Getty)

خلقت مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي نمطًا جماهيريًا مشحونًا بفكرة الزعيم، ذائبًا بمتبنياته، حيث بات يفكك الأزمات بذات الفهم لزعيمه، حتى ولو كانت أخلاقية تتطلب موقفًا وطنيًا خاصًا، كأن يكون مرتبط بالهوية والحقوق والمواطنة بشكل عام، إذ لا يخرج بعيدًا عن تأطيره الحزبي المستنبط من رأي "الأخ الكبير" كما يقول الروائي جوروج أورويل في روايته الشهيرة 1984، هذا النموذج مأخوذًا بصلابة الجماعة وهيمنتها، وليس مهتمًا بجذر المشكلة بقدر ما يسعى لأن يكون مطابقًا للرؤية المبنية على أطر قد تكون عقائدية خاصة جدًا، تتبناها الطوائف وزعاماتها، حالة غدت استثنائية أفرزها نظام سياسي تأسس على أساس التوازن الطائفي والتكتلات والتوافق المحاصصاتي، ومن الطبيعي أن تنتج جماعات متصلبة تتبنى ثقافات لا جدال فيها، ترى من نفسها الحقيقة الوحيدة وما سواها باطل. 

المقارنة مع أحداث أمريكا تأخذنا لصورة ناصعة عن انتفاضة تشرين بسلميتها وصورها المتعددة في المطالب والحقوق لكنها واجهت بالقناص من قبل سلطة المحاصصة

يقرأ هذا الجمهور الآن ما يحدث في أمريكا على أنه ثورة تتطلب دعمًا للإطاحة بالاستكبار العالمي ورأس الشر بحسب وصفه للمعطيات على هذا النحو الضيق بعيدًا عن حقيقة التكوين المجتمعي الأمريكي وما يتبعه من مفارقات، باتت جزءًا من مجتمع هذه البلاد المتنوعة الذي يخلق بدوره هذه المشاكل كعادة تأريخية يعود محتواها إلى سياسة الهجرة والتكوين وتجارة الرق الذي تجذرت على أساسه الطبقية والعنصرية. المثير للدهشة وبالرغم مما يرافقها من أعمال شغب وتخريب هو يحشد لها بحماس ثوري قل نظيره، بينما هو نفسه يوظف ذات التحشيد بالضد من احتجاجات الشباب في العراق المستمرة منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر وما خلفته من جرائم دموية لا زال فاعلها مختبأً خلف نظرية المؤامرة، وهي الحشوة التي يتلذذ بها عقل الجمهور من قبل القائد لمحو آثار الجريمة. إن ثنائية التعامل هذه لا تحتمل التبرير ولا يمكن أن تخرج من إطار فاعليتها كونها دوافع جذرها عقائدي حزبي لا يمت بصلة لمفهوم الحقوق وسياق الاحتجاج كسلوك ضروري لا بد من ممارسته ضد السلطات المستبدة وإنما يعود لمزاج متعكر قرر الاختلاف. 

اقرأ/ي أيضًا: تفاعل عراقي مع أحداث مينيابوليس الأمريكية.. انتفاضة تشرين في المقارنة

المقارنة بين الحدثين بتجرد تأخذنا لصورة ناصعة البياض عن انتفاضة تشرين بسلميتها وجمالية فعلها الذي أفرز عنوانًا لم يكن مألوفًا لدى العراقيين مؤداه أن القتل لن يكون حلًا، والقمع يولّد تمردًا لجيل قد تمرد أساسًا على السائد، وبات متفهمًا لمعنى الحقوق والواجبات متعطشًا للهوية الوطنية، مدركًا لصعوبات نيلها بعيدًا عن المؤاخذات التي ترافق كل حراك شعبي من هذا النوع، في حين الصورة مختلفة في أمريكا حاليًا من مشاهد للحرق والتكسير والنهب، لكنها غير دموية، ويرجع ذلك إلى الفارق في ثقافة التعامل لدى السلطة بين البلدين، وبدوره يأخذنا لنموذج الدولة الغائب في العراق وسيطرة السلاح المنفلت على المفاصل كافة، وهو ما أسس لاشتعال وهج الاحتجاج في العراق. فيما تغيب هذه المقارنة الآن وربما تسبب انزعاجًا في حال طرحها للكثير لأسباب تتعلق بفهم الحدث من زواية الارتباط الرمزي بالزعيم الذي يخلق فهمًا مؤدلجًا على نحو ضيق يكتفي بما لديه، بلا مشاكسات فكرية من الممكن أن تحرض على بدائل في التفكير تطعن الهالة القدسية وتزحزح القيم الروحية وتخلخل صلابة الجماعة. 

يقول غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، إن "الميزة الأساس للجمهور هي انصهار أفرادها في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية"، ويمكن أن ينطبق ذلك على حالتنا هذه في حاجة المخيلة الشعبية طرق ووسائل ترغيبية تعرض لها الوقائع، وليس الواقع بحد ذاته فهي لا تكترث للمشكلة بقدر اكترثها لردود أفعالها. 

طرائق التفكير هذه تتشذب وتبدو أكثر عقلانية ومرونة في حال تحقق وجود الدولة بمؤسساتها ومراكزها البحثية وازدهارها الاقتصادي، ونموها التعليمي، وتوفير ما يحتاجه العراقي للشعور بهويته كمواطن وهو الحلقة المفقودة في هذه البلاد مهما حاولت الحكومات المتعاقبة منع تناولها كمشكلة تتطلب حلًا عبر ترسيخ مبادئ مدنية تصنع نموذجًا ديمقراطيًا حقيقيًا يأخذ على عاتقه النظر بمعالجة الأزمات سريعًا سيظل فراغًا يبحث عن حيز لشغله، وهو ما كان ممكنًا كفرصة خلقتها انتفاضة تشرين لتغيير التوازنات في العملية السياسية نحو بديل مقنع يفرض محتواه على سلطة السلاح لكنه قوبل بالقنّاص!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بين تظاهرات العراق وأمريكا: مطربة الحي لا تطرب

انتفاضة تشرين.. صوت المستقبل