30-أكتوبر-2020

إن مسبّبات الاحتجاج لم تُحل في العراق (Getty)

نهدف في هذه السطور توثيق بعض الأحداث لغرض التوثيق بذاته، مع ملاحظات حول اعتصام الخامس والعشرين من تشرين وذكراه الأولى ثم إعلان إنهاء الاعتصام من بعض المتظاهرين الموجودين في ساحة التحرير، وتداعيات ذلك التي من بيها حالة إحباط طالت المتأملين بإنجازات عاجلة.

لقد اتجهت الانتفاضة نحو النهاية، بدءًا من الاشتباك مع التيار الصدري، ومن ثم الحظر الصحي، فالانسحاب تدريجيًا حتى تكليف الكاظمي

كانت الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الحكومة قبل أيام من الذكرى ملفتة ومصحوبة بتسريبات وتحذيرات عن وجود ما سيعكر صفو التظاهرة. أُغلقت المنطقة الخضراء وانتشرت القوات الأمنية في معظم مناطق بغداد، وحُجزت العديد من مركبات التكتك والدراجات النارية، ومنعت حافلات المتظاهرين القادمة من محافظات جنوبية إلى العاصمة من العبور.

اقرأ/ي أيضًا: المعادلات المجتمعية والسياسية بعد عام على تشرين

بات واضحًا لدى الأجهزة الأمنية المعنية حسب علمنا، وجود عناصر تنوي إحداث عمليات عنف في ساحة التحرير حضرت حتى قبل صبيحة 25 تشرين. وما كان يُسرّب حصل حرفيًا: قنابل الزجاج الحارقة ترمى بكثافة على القوات الأمنية المرابطة خلف الصبات الكونكريتية على الجسر الجمهوري دون سابق إنذار، وقنابل يدوية، وحرائق طالت الخيام ذاتها. ومن المعروف لكل متابع للتظاهرات في بغداد أن الجسر الجمهوري خرج من دائرة الاشتباك والتصعيد منذ أشهر طويلة، حتى قبل حادثة التواثي ومن بعدها انتشار فيروس كورونا وفرض حظر التجوال.

ولكي تكتمل الفصول المُعدّة مسبقًا، سارعت شخصيات سياسية لإثبات تهمتها على المتظاهرين ودعوة رئيس الحكومة لإنهاء وجودهم، مقابل إعلان بعض المتظاهرين الانسحاب من ساحة التحرير لتنتهي حالات الاشتباك تدريجيًا وبسرعة، حتى وصلت بعد يومين فقط إلى فتح طرق أغلقت قبل عام، كالطريق الرابط بين ساحة النصر وشارع السعدون مرورًا بنفق التحرير، ثم لاحقاً بعد أيام، فتح جميع مداخل ساحة التحرير.

لقد اتجهت الانتفاضة نحو النهاية - بوصفها انتفاضة تحولت لاعتصام مفتوح ـ بدءًا من الاشتباك مع التيار الصدري على خلفية ترشيح محمد علاوي لرئاسة الحكومة، ومن ثم الحظر الصحي، فالانسحاب تدريجيًا حتى تكليف مصطفى الكاظمي برئاسة الحكومة والتصويت عليه.

ومن هنا، يُمكن التطرق بشكل سريع لمطالب المتظاهرين والعوامل التي ساهمت بخفوت الحماس لكي لا نتحدث عن قناعة تامة. فرغم رغبة شريحة من المتظاهرين والذين تعاطفوا معهم بإسقاط النظام وعدم قناعتهم بإمكانية إصلاحه، إلا أن أحدًا لم يرفض بشكل قاطع المطالب التي رفعتها الساحات في العودة الثانية (25 تشرين) بعد اضطراب الأسبوع الأول.

تضمّنت المطالب استقالة حكومة عادل عبد المهدي بعد مقتل وجرح مئات المتظاهرين وأحداث القناص وقطع خدمة الإنترنت وفرض حظر التجوال وملاحقة الناشطين ووسائل الإعلام كشرط للبدء بالحديث عن الإصلاحات، والتي تشترط بدورها تغيير قانون الانتخابات غير العادل وتنصيب مفوضية مستقلة وإجراء انتخابات مبكرة، وغيرها من المطالبات العامّة كتغيير الدستور ومحاربة الفساد والمحاصصة. وهي خارطةُ طريقٍ تحمل ما هو معنوي كنصرٍ، ومؤسسٌ لثقافة جديدة، وما هو عملي نحو انبثاق برلمان أكثر شرعية وتمثيلًا للناس، وسحب الشرعية من الدورة النيابية الحالية لفضائح التزوير التي شابتها فضلًا عن إخفاقها في كل شيء تقريبًا، بدءًا من ولادتها وليس انتهاءً بتفرّجها على المجازر التي ارتكبت طيلة الاحتجاجات.

على العكس مما يتصوره بعض المحبطين - ولهم كل الحق - فأن خفوت جذوة الاحتجاج لها من الأسباب ما يفوق التحليلات المتعلقة بخيانة الناس للمتظاهرين، أو شراء ذمم ناشطين، أو انقطاع تمويلهم كما تروّج الأحزاب والمتضررون من تشرين.

وإذا عدنا للمطالب، فأن استقالة الحكومة تحققت بعد أكثر من شهر بقليل على العودة الثانية، ورغم أنها لم تكن كافية بالنسبة للمحتجين، إلا أن فرادة الحدث التأريخية أزاحت شيئًا من غضب من صدور بعض الناس. ومع مجيء الكاظمي ووعوده القاطعة بإجراء انتخابات مبكرة، وهي مطلب أساسي يكمّل استقالة الحكومة ويضع حدًا بين حقبة وأخرى، ثم البدء بملف قانون الانتخابات ومفوضيتها، انخفضت، اثر ذلك، أسباب استمرار الاحتجاج دون حلول قاطعة لتلك الأسباب، وهي نقطة بالغة الأهمية ومتشابكة.

انتفاضة تشرين تعرّضت لثورة بالمعنى المجازي من قوى السلطة تحديدًا بمختلف أنواعها، لاحتواء الحراك الجماهيري وتفريغه من محتواه

وقبل التعليق على هذه النقطة، لا بد من الإشارة لأحداث أخرى، ساهمت بشكل كبير في توقف قطار الانتفاضة وحرف مساره، كعملية اغتيال سليماني والمهندس، والتي أعادت الأحزاب الرئيسة في البلاد إلى بعضها البعض متماسكةً بفعل صدمة عملية المطار، ووجّهَ شطرٌ منها سهامَه نحو ساحات الاحتجاجات، بالإضافة إلى لعب الأحزاب على عامل الوقت الذي أضرّ بحاضنة الاحتجاج وفتح باب المزايدات والمساومات ودخول أطراف للمتجارة والاستفادة من الحدث.

اقرأ/ي أيضًا: كلمة لأحرار تشرين

قلنا إن مسبّبات الاحتجاج لم تُحل لكن دوافع البقاء – مع الأخذ بعامل الزمن والعوامل المذكورة – ضعفت تدريجيًا. والقصدُ هنا؛ أن أبوابًا للإصلاح فُتحت بالاستقالة والإجماع السياسي على الانتخابات المبكرة. وأبواب الإصلاح كما يخبرنا التاريخ سلاح ذو حدين، لناحية تهدئة الجماهير وإعطاء فرصة لنخب النظام أن تجري تغييرًا بنيويًا. ومن جانب آخر؛ فهي توهم بعض الأنظمة بأنها انتصرت على القوة الشعبية المنتفضة. هذا وهي إصلاحات آنية، فكيف بمجرد أبواب لم يشعر المنتفضون بأنها كافية أو شبه كافية؟

لم تتعرض انتفاضة تشرين لثورة مضادة كما يصف أحد الباحثين، على غرار ما حصل في مصر، فانسحاب بعض الناشطين وهرولة آخرين نحو الحكومة لا يعني شيئًا في بلاد تغص بالعاطلين عن العمل مثلًا، وهو (الانسحاب) ليس نتيجةً لتغيّر القناعات أو قتلًا للظاهرة بذاتها، أو حنين لنظامٍ سابق، أو ردّة شعبية مضادة؛ بل أن الانتفاضة تعرّضت لثورة بالمعنى المجازي من قوى السلطة تحديدًا بمختلف أنواعها، لاحتواء الحراك الجماهيري وتفريغه من محتواه. لكن إلى الآن، لم تُحسم النتائج لمصلحة طرف على حساب آخر.

إن تراجع دوافع الاحتجاج "العام" وليس الفئوي دون معالجة حاسمة يعني تأجيلها، وتأجيل الامتحان لا يعني نهايته، على جميع الصُعد.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

25 تشرين.. فاصل تاريخي بطله التحدي

سنوات المخاض