17-سبتمبر-2015

فتى جنوب مدينة البصرة، 30 كانون الأول/ ديسمبر 2009 (Getty)

في بداية ثمانينات القرن الماضي، دخل العراق في حرب طاحنة مع جارته الشرقية إيران. الحرب اندلعت بعد أقل من عامين على تسنم صدام حسين منصبه رئيسًا لجمهورية العراق، بعدما كان نائبًا لسلفه أحمد حسن البكر، الذي أُجبر على التنحي من منصبه بطلب من خلفه.

الموت كان ولا يزال رفيقًا للعراقيين.. هم كذلك في كل شيء يذكرون الموت

في هذه الحرب كانت مدن العراق لا تخلو من طوابير للسيارات، فوقها صناديق خشب، لُفّ عليها العلم العراقي. كانت العوائل التي ترسل أبناءها إلى القتال مُجبرة، لا تعول على القدر أبدًا في إعادتهم سالمين. الجميع يعتقد أن الذاهب إلى هُناك هو نهاية المطاف. الشباب كانوا جزء من وقود الحرب المستعرة.

إذا ما طرق "بعثيٌ" منزل أي من العوائل التي أرسلت أحد أبنائها للحرب، فإن الجميع سيعرف الخبر وماذا سيقول هذا الذي جاء بزي زيتوني. أتذكر تلك المرأة الخمسينية التي قالت لي، إن: "شقيقها كان في الجبهة ولا توجد وسائل اتصال مثل الموجودة الآن، فالأخبار تصلهم إما عبر جنود مُجازين أو ساعي البريد". في يوم ما طرق باب بيت تلك المرأة التي تستذكر شبابها، رجل بعثي معروف في المنطقة. تعالت صرخاتها دون أن تعرف الخبر، أمها مثلها صرخت دون أن تعرف السبب، لكنها عرفت من يقف في الباب. كان مجيء هذا البعثي الذي ذاع صيته في المنطقة حينها، لأجل أن يخطب أختها لابنه.

الموت كان ولا زال رفيقًا للعراقيين، هم كذلك في كل شيء يذكرون الموت. عندما يُريد الحبيب الغلو بالقول لحبيبته يقول لها: "أموت عليج"، وإذا أراد أحد أن يقول إنه جائع بذات الغلو يقول: "أنا ميت من الجوع"، مثلهما يقول ذلك الذي يُعاني من حر صيف العراق اللاهب: "أنا ميت من الحر".

أودت الحرب العراقية – الإيرانية التي لم ينتصر فيها أي منهما، بحياة أكثر من مليون إنسان، وخسارة مليارات الدولارات التي أنفقت على السلاح حينها. الحرب استمرت ثماني سنوات، كانت فيها خسائر كبيرة على مستوى البُنى التحتية، وعلى مستوى الإنسان فالمُعاقين لا توجد إحصائية بهم لكثرتهم. جيل الثمانينيات وحتى السبعينيات في نهايته، فتحوا أعينهم على الحرب، وعلى السلاح. أصبحوا يخافون من وجود العلم العراقي على أية سيارة، في حينها كان يُمثل العلم جثة جيء بها من المناطق القريبة من إيران.

العراقيون الذين سُعدوا بإنتهاء الحرب الأطول في العالم مع جيرانهم الشرقيين، لم تسنح لهم عبثية صدام حسين ليعيشوا مدة على الأقل بمستوى مدة الحرب التي خرجوا منها توًا، لكنهم انصدموا بدخول قوات صدام حسين إلى الكويت في فجر لا يريدوه أن يتكرر.

كان وجود العلم العراقي على أية سيارة، خلال الحرب مع إيران، يُمثل عودة جثة من الجبهة

دخل صدام إلى الكويت، وبقى فيها لأسابيع طويلة. من جديد دفع بالعراقيين ليكونوا حطبًا لحروب يفتعلها ويريد أن يدخل التأريخ عبرها كقائد عربي. تدخلت القوات الأميركية دفاعًا عن الكويت ومصالحها في الخليج. بطائراتها "الشبح" ودباباتها المتطورة، ألحقت بالجيش العراقي آنذاك هزيمة كبيرة. كالعادة القتلى في تزايد. المجازفة ودخول الكويت دفعا بالمجتمع الدولي إلى فرض عقوبات كبيرة على العراق، الذي عاش فترة حصار منذ ذلك الوقت حتى التغيير في عام 2003. بعد أشهر من دخول الكويت، اندلعت في جنوب العراق "الانتفاضية الشعبانية"، ضد نظام صدام، التي سيطر مقاتلوها على ثلثي البلاد، لكن بطش جيش صدام أجهضها.

المشاركون في الانتفاضة أصبحوا هدف أجهزة النظام حينها. لم يكتف بهم، بل عوائلهم كذلك. حينها دخل العراق مرحلة جديدة من الصراع، لكنه تحول من عراقي – ايراني – كويتي، إلى صراع سلطة – ومنتفضين. على إثر تلك الانتفاضة غادر مئات العراقيين إلى أميركا وأوربا. ولد جيل جديد من العراقيين، من رحم حرب الكويت والحصار الذي أنتجته. جوع وفقر وسلطة مستبدة ونفط بلا فائدة. هكذا كان العراق من حرب الكويت حتى 2003. ثلاثة عشر عاماً من تدمير المجتمع.

أمي التي كانت تخاف عليَّ في زمن صدام حسين من الذهاب إلى المعسكرات الصيفية "أشبال صدام"، لم ينته خوفها، بل ازداد بشكل أكبر، أصبحت تخاف علي من الذين كانوا يخافون من صدام. دائمًا تطلب مني أن لا أتحدث عنهم بسوء، فهم صدام بهيئة أخرى.

"سنكون بخير، صدام لم يعد موجودًا، والأميركان سيعطوننا دولارات"، يقول شاب عراقي وهو يشاهد سقوط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس 9 نيسان/ أبريل 2003. اعتقدوا أن كل شيء سيكون على ما يرام، بمجرد نزول الجندي الأميركي من تمثال صدام وسحبه بالدبابة.

الحرب التي كانت على الجبهات في ثمانينات وحتى تسعينيات القرن الماضي، لم تعد هناك. إنتقلت الحرب إلى داخل المدن، في بعض الأحيان إلى داخل المنازل. الشباب العراقي ضحية كبيرة لها. عصابات. جماعات إرهابية. ميليشيات. مخبر سري. الجميع يخاف من الجميع. فقد العراق منذ دخول القوات الأمريكية عام 2003 وحتى الآن، 750 ألف إنسان تقريبًا. هذا الرقم أكثر من نسمة سكان بُلدان أخرى. رغم ذلك بقي سكان بلاد الرافدين بحياة شبه طبيعية، حُب، وزواج، وأطفال. في المقابل، إرهاب ومفخخات وموت.

لا شيء يستحق أن نكون هُنا. نحن لسنا أكثر من وقود لإدامة الحرب.