17-سبتمبر-2019

ولادة الفلسفة لجيورجيو كولي (ألترا عراق)

نعرف أن الفلسفة "فيلوصوفيا" تعني حبّ الحكمة، والفيلسوف محبّ للحكمة، لكنْ ما هي هذه الحكمة التي أحبها رجال كثر فصاروا فلاسفة؟

كانت الحكمة تُقال وتُنقل مشافهةً، ولم يكن لها ذلك التحديد الذي يربطها بالعقل تلقائيًا، إذ كانت الحكمة اسمًا جامعًا للشعر والعلم والكهانة وضروب العلاجات الروحية

في كتابه "ولادة الفلسفة" يرجع بنا الفيلسوف الإيطالي "جيورجيو كولي" (1917 ـ 1979) إلى زمان مغرق في القدم حين لم تكن المعرفة بحاجة إلى تدوين لتحوز لها اسمًا، كانت الحكمة تُقال وتُنقل مشافهةً، ولم يكن لها ذلك التحديد الذي يربطها بالعقل تلقائيًا، إذ كانت الحكمة اسمًا جامعًا للشعر والعلم والكهانة وضروب العلاجات الروحية. إنّ لها أصلاً وثيقًا بالدين، ورابطًا متينًا بالهوامات والجنون.

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان الخطّاء لبول ريكور..من أجل أن يخسر الشيطان رهانه!

 يورد أفلاطون في محاورة طيماوس، النصّ التالي: (الكهانة الصادقة لا تتوصل إلى المعرفة إلا حين تكون الحواس مشلولة بالنوم أو المرض أو أن تكون زائفة كونها مسكونة من قبل إله)، ثم لاحقًا يأتي دور العقل الذي تتلخص وظيفته في (تذكّر هذه النبوءات وتأملها). والعبارتان رجع صدى لمقولة أفلاطون الأشهر: (المعرفة تَذكُّر).

ميّز أفلاطون بين الكاهن والنبيّ، فإذا كان الكاهن هو الذي يباشر العلاقة مع الغيب فيهذي وتجري على فمه أقاويل مبهمة ملغزة، فإن النبيّ هو من يفسّر هذه الأقاويل ويحكم عليها ويحلّ ألغازها، وبجلمة واحدة: الكاهن يرى والنبيّ يمنح رؤياه معنى.

غير أن النبي "المؤوِل، المفسِّر" لا يمنح لنا تفسيره وتأويله كيفما اتفق، لا يقول كلمته بوضوح تامّ لئلا يفسد الأصل الملغز، لأن في الوضوح خيانة للأصل الإلهيّ للحكمة التي تظلّ لها حاجة أبدية إلى أن تكون مبهمة. ورد في "الأوبانيشاد" الهندية (الآلهة تحبّ الألغاز وينفّرها ما هو جليّ). ودائمًا فإن كل سياق ديني يصاحبه ظهور كلام مبهم، ولهذا اقتضت الحكمة آنذاك استيلاد تلميحات موحية مكتنزة بالمعنى لكنها مبهمة من قبيل مقولة "اعرف نفسك"، تلك الجملة التي عقد لها فوكو فصولًا لشرحها في كتابه "تأويل الذات".

اللغز، بحسب أرسطو، صوغ استحالة عقلية معبّرة عن موضوع حقيقيّ، أو قول أشياء عادية بربطها بأشياء مستحيلة. في أقوال هيراقليطس يبدو كلّ شيء مردودًا إلى هذا الأصل المبهم:

"الطبيعة تحب أن تتخفى"

"الأساس الوحيد للعالم هو الشيء الخفيّ"

"التناغم الخفيّ أقوى من التناغم الظاهر".

وهكذا كانت الحكمة أرض هذا النزاع بين الرؤيا وتأويلها، أو بين الكاهن والنبيّ، أو بين الإله الذي يطرح لغزه والإنسان الذي يكون لزامًا عليه أن يحلّ هذا اللغز وإلا فقد حياته كما في اللغز الذي طرحه أبو الهول على أوديب.

انحطاط الجدل، وحقيقة أن الإقناع بالخُلف "أي بما ينافي العقل" أشدّ تأثيرًا من الاقناع بالبرهان، جعل نيتشه يسمّي عصر سقراط بداية الانحطاط اليوناني

على هذه الأرض الملأى بالأضداد، ولد الجدل الفلسفيّ بعد أن انحسر الدين وأصبح النزاع ـ الجدل بشريًا محضًا، فولد الحِجاج العقليّ المصحوب بعدّة كاملة من التفنن الاستدلاليّ الذي يراد منه إلقاء أسئلة ـ ألغاز لإخضاع المسؤول، ثم انبثقت منه الخطابة التي هي لا شيء سوى فنّ إخضاع المستمعين.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "علاج شوبنهاور".. المرض كتأمل في فلسفة الحياة

اللغزُ المرتبط بالنبوءة والجنون هو أصل الجدل، لكنّ مآل هذا الجدل أن يغدو مدمرًا، محض عدمية تأملية، لأنّ في هذه العدّة الحِجاجية الهائلة قدرة على إثبات الشيء ونقيضه، وطمسًا لحقيقة كل موضوع، لأنّ به أبدًا جرثومة نسيان الأصل والانشغال بالكثرة والمتضادات عن الوحدة، أو بالرؤية عن الرؤيا، ما يلخصه تمامًا ما سمي بمعضلات زينون الإيلي من قبيل مغالطة السهم الساكن والمتحرك في آن واحد (السهم الطائر في الهواء هو في الحقيقة ساكن غير متحرك، لأنه في كل لحظة من طيرانه لا يكون إلا في نقطة واحدة في الفضاء، أي أنه يكون ساكنًا، وحركته منطقيًا وميتافيزيقيًا غير حقيقية مهما بدا للحواس أنها واقعة فعلًا)، أو الجمل الثلاث لغورجياس:

  • لا يوجد شيء
  • حتى لو وجد شيء فلا يمكن أن يُعرف
  • حتى لو وجد شيء وعرفناه فليس في وسعنا شرحه للآخرين.

انحطاط الجدل، وحقيقة أن الإقناع بالخُلف "أي بما ينافي العقل" أشدّ تأثيرًا من الاقناع بالبرهان، جعل نيتشه يسمّي عصر سقراط بداية الانحطاط اليوناني، يوافقه مؤلف الكتاب جيورجي كولي على ذلك مؤكدًا على أن لحظة التدوين الفلسفيّ جعلت من الحكمة نوعًا أدبيًا، فقد ظلت الفلسفة تحمل في طياتها ذهنية الكتابة وأخلاقياتها وأعرافها، وبفقدان الشفوية ضاعت النزعة الباطنية التي لا يعدّها كولي مضادة للعقل بل هما "مرحلتان متعاقبتان لظاهرة أساسية".

سمّى أفلاطون مَنْ كانوا قبله بالحكماء في حين سمّى نفسه فيلسوفًا "أي محبًا للحكمة"، وحبّ الشيء ليس هو الشيء ذاته، حبّ الحكمة ليس حكمة، وأفلاطون ليس حكيمًا. بهذا يختم "كولي" كتابه الغنيّ على صغر حجمه، لتخلص معه إلى أن "الأصل يتفلّت منا دائمًا وإذا أردنا استعادته علينا الاستدارة والعودة نحو الشعر والدين" واستعارة شخص العارف الذي لا يقول ولا يخفي ولكنْ يشير.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"موت المؤلّف".. الحميميّة في مقابل النظريّة

عزاء لفرويد